العرب في
معرض موسكو للكتاب:
غياب في الغياب!
كفى الزعبي
15/09/2009
لا أدري هل شعرت بالأسف أم بالخجل وأنا أتجول في أروقة معرض موسكو الدولي للكتاب ! في الحقيقة كان خليطا من الشعورين. ففي حين خُصصت مساحات واسعة للمنتجات الفكرية والأدبية لمعظم دول العالم بغربه وشرقه، جنوبه وشماله، لم أعثر بينها إلا على زاويتين عربيتين فقط، الأولى لمصر حيث لم تتجاوز المساحة المخصصة لها ثلاثة أمتار مربعة وربما أبالغ إذا قلت أن عدد الكتب المعروضة يصل العشرين، منها قواميس عربي روسي وبالعكس ومنها منشورات سياحية عن مصر. أما الزاوية الأخرى فهي للسعودية. وهنا كان حظ السعودية أفضل، حيث شغلت المساحة الموهوبة لعرض الكتب ما يقارب العشرين مترا. طبعا ـ أقول طبعا مع الأسف الشديد ـ جميع الكتب المعروضة دينية، تطل عليك من خلف زجاج العرض ومن على الرفوف بأغلفتها السميكة وخطها الكوفي كأنما لتقول أن ثقافتنا العربية تقتصر على الدين ليس إلا: لا أدب، لا فكر، لا علم، لا فلسفة، لا سياسة ...لا شيء آخر. بالإضافة إلى هذا الـ 'لا شيء آخر' تطل عليك عبر الزجاج ملصقات لصور الملك عبدالله وهو يقبّل أطفالا صغارا، كي يعلم الروس والغرب مدى طيبة وحنان قادتنا على الأطفال.
لماذا العرب ليسوا هنا؟
لا أظن أن هذا السؤال تبادر إلى ذهن أي زائر للمعرض، ليس لأن الكم الهائل المعروض من الكتب، وتنوع الدول ودور النشر واللغات، قادر على أن ينسيه أي غائب وحسب، وإنما أيضا لأن مسألة غيابنا أو حضورنا لا تعني هذا الزائر بالدرجة التي تجعله يطرح فيها هذا السؤال.
أما أنا فقد طرحته: لماذا نحن لسنا هنا؟
طرحته مع أنني أعرف الإجابة وأظن أن القارئ يعرفها أيضا ويعرف أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الغياب هو غياب المشروع الثقافي والحضاري العربي على الساحة الدولية. نحن باختصار غير مهمومين بتقديم أنفسنا وإيصال صوتنا إلى الآخر، هذا عدا عن أننا ما زلنا عاجزين عن التحرر من قوقعة الذات واكتشاف اللغة التي يجب أن نخاطب بها هذا الآخر.
للموضوعية ، وعدا عن هذا السبب المهم هناك أسباب أخرى مهمة فلست أدري في الحقيقة كيف تتم المشاركة في معارض كهذه، وطبيعة العلاقات بين الدول التي تعتمد عليها هذه المشاركة، لكن، في هذا الصدد بوسعي القول أن روسيا الحالية، هي ليست ذاتها على الإطلاق التي كانت إبان العهد السوفييتي. الآن هناك عمل حثيث من قبل اليهود واللوبي الصهيوني لإبعاد روسيا عن العرب أو على الأقل تحييد موقفها منهم. وفي الوقت ذاته لا يكف هذا اللوبي سواء في وسائل الإعلام جميعها، أو فيما ينشر من كتب أو في الأعمال الفنية، عن رسم وتكريس صورة نمطية في ذهن الإنسان الروسي حول الإنسان العربي: صورة الإنسان المتخلف اجتماعيا الأصولي والإرهابي. في هذا السياق هناك ترحيب مفرط بأدب عربي يعكس هذه الصورة، وثمة روايات عربية رائجة جدا يتلقفها القارئ الروسي بلهفة. روايات نرى على أغلفتها صور لنساء منقبات كُتب على أغلفتها الخلفية كلاما موجها للمرأة الروسية: 'اشكري الله أنك ولدت هنا ولم تولدي في دولة عربية'.
أنا لا أنفي أن واقع المرأة العربية سيىء وبحاجة ماسة إلى طرحه وبقوة، ولكن السؤال الذي يجب أن لا ننساه هو: بأية لغة وبأية رؤية نطرحه؟ وهل العربي هو وحده المسؤول عن هذا الواقع أم أن هناك دورا للاستعمار الذي عمل طويلا وعلى مدار قرون على تخلفنا الاقتصادي والسياسي والاجتماعي؟ يجب النظر إلى المسألة بشمولية، وتعرية هذه الحقائق أمام القارئ الغربي وغيره كي يدرك أن تاريخ بلاده ـ وحاضرها أيضا - ليس بريئا من مآسي واقعنا العربي. وهذا يفرض على المثقفين العرب أن لا يتركوا الساحة خالية لليهود ومؤازريهم في الفكر والمواقف كي يكتبوا عنا ويترجموا ما يناسب رؤيتهم من أدب هو في المحصلة يندرج ضمن النهج الاستشراقي الذي شرحه بإسهاب إدوارد سعيد وخلص إلى نتيجة بأنه يخدم المشروع الاستعماري. يريدون أن يقرأوا عن تخلفنا وعنفنا بأقلامهم وبأقلامنا كي يمتلكوا المبرر الأخلاقي في استعمارنا.
ونحن غائبون. أقول نحن ولست أدري من نحن...
ففي الحقيقة ليس هناك ثمة ' نحن ' متجانسة ومتكاتفة معنية بهذا الهم...لا على صعيد السلطات ولا على صعيد النخب الثقافية فما بالكم بالشعوب المقموعة والجائعة.
يبدو لي ـ وقد أكون واهمة ـ أنني أعي جوانب المشكلة، لكنني مع ذلك بقيت وأنا أتجول في أروقة معرض موسكو الدولي للكتاب أتساءل: لماذا نحن لسنا هنا؟
طرحت هذا السؤال ليس بهدف العثور على اجابة، لا سيما وأنه يبدو لي أنني أعرفها، وإنما طرحته بعفوية وتلقائية عكست إحساسا عميقا بالمرارة في داخلي. وبدا لي وأنا أطرحه أننا لسنا هنا ولسنا هناك أيضا. إننا أمة غائبة في كل مكان. لقد أصبحنا طيف أمة، طيفاً ليس إلا.
قد يعارضني البعض قائلا أنني أضخم الأمر، وأن هذا الغياب يقتصر على روسيا، وأن الكتب العربية تشارك بحضور أكبر في معارض الكتب الغربية. ربما! لست أدري ، فأنا شخصيا لم أشارك من قبل في تلك المعارض. لكن هذا السؤال يفتح الباب عريضا أمام سؤال آخر: لماذا نحن غير معنيين بروسيا وبالقارئ الروسي، خاصة إذا كان هناك طرف ثالث معنياً بهذا الغياب وبتعزيزه؟
هذا الطرف ـ وهو ليس خفيا على أحد ـ هو في الوقت ذاته معني للغاية بالقارىء الروسي. كنت أسير في المعرض وأنا أتساءل بسذاجة مضحكة: لماذا خُصصت أجنحة وليس زوايا صغيرة لدور النشر الإسرائيلية؟ لماذا يصادف المتجول في هذا المعرض بين اللحظة والأخرى يهودا غير متخفيين، بلباسهم التقليدي وقبعاتهم وجدائلهم المتدلية؟! ولماذا تصادف الكثير من عناوين الكتب عن اليهود وقضاياهم ومحرقتهم، المعروضة ليس في الأجنجة اليهودية وحسب بل وعلى واجهات عرض دور النشر الروسية وغيرها؟...
لماذا ولماذا ولماذا.؟...كلها لماذات مثيرة للأسف والخجل والمرارة....
لست أريد هنا الحديث عن أهمية روسيا والقارئ الروسي بالنسبة للعالم العربي، فلا أعتقد أن ثمة خلافاً حول هذا الأمر. ليس هناك خلاف على الصعيد النظري، أما على الصعيد العملي فعلى ما يبدو أن هناك خلافا كبيرا...وغياب الكتاب العربي في معرض موسكو الدولي للكتاب يبرهن على ذلك.
في هذا الصدد أجد أنه لا بد لي هنا من الإشارة إلى تجربة فردية ريادية وفي غاية الأهمية تحاول أن تمحو شيئا ولو ضئيلا من رمادية هذا المشهد، وهي دار بيبلوس كونسالتنغ للنشر. منذ عامين أسس دار النشر هذه الدكتور سليم علي، وهو سوري الجنسية، وهي أول دار نشر عربية في روسيا، تم تأسسها - وكما قال لي صاحبها الدكتور سليم لأهداف واضحة ومحددة، وأكدت أقواله عناوين الكتب التي نشرها خلال هذين العامين. تتركز هذه الأهداف على ترجمة ونشر الكتب العربية المعنية بقضايا الإنسان العربي، والقادرة على زعزعة تلك الصورة النمطية المشوهة لدى القارئ الروسي عن الإنسان العربي وثقافته وعدالة قضاياه. إنها حقا تجربة ريادية وهي في الجوهر نبيلة وتعكس مشاعر قومية ووطنية صادقة، خصوصا وأنها ليست ربحية. أقول ذلك لأنني أدرك مدى صعوبه هذه الرسالة التي ' ورط ' الدكتور سليم نفسه بها وأعرف إلى درجة ما حيثيات الواقع الروسي وتعقيداته. كي ينجح هذا المشروع يجب أن يتبناه ليس فردا واحدا بل دولا ً ومؤسسات تحمل هذا الهم القومي والوطني، لأنه ليس مشروعا تجاريا، على الأقل في السنوات الأولى، وعلى الأقل بسبب الحرب التي سيتحتم عليه أن يخوضها في عملية تسويق الكتب، وإيجاد مكان لنفسه في سوق يتوقف طويلا عند اسم الكاتب وعنوان الكتاب وموضوعه قبل أن يوافق على عرضه، أو قراءته. سوق هو محكوم بشكل مباشر وغير مباشر بمصالح اللوبي الصهيوني.
أنا شخصيا مررت بتجربة مثيلة عندما ترجمت روايتي 'عد إلى البيت يا خليل' التي تصور شناعة المجازر اليهودية التي ارتكبت ضد الفلسطينيين خلال عشرات السنين، من أجل تحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين. لم أستطع نشره على مدار ثلاثة أعوام، مع أن كثيرا من دور النشر الروسية قيمت الرواية بالممتازة كعمل فني لكنهم قالوا لي بصراحة أنهم لن ينشروها لأنها قد تسبب لهم إشكاليات هم في غنى عنها مع اليهود. لكنني فوجئت، وبعد أن يئست وتراجعت عن مسألة نشرها، بالدكتور سليم يتبنى مسألة نشرها، ويتحمس للترويج لها.
ما أقصد الإشارة إليه أن تجربة دار بيبلوس للنشر، هذه التجربة الفردية والريادية المهمومة حقا بتوصيل الصوت العربي إلى القارئ الروسي، هي مغامرة صعبة للغاية، تتطلب خوض معارك وجهد نفسي ومادي كبير. لهذا يبدو لي أنه من الضروري جدا على المثقفين العرب ومؤسساتهم من اتحادات وروابط للكتّاب وغيرها أن تساند هذا المشروع وتتعاون مع دار النشر هذه وتدعمها بكل ما تستطيع، وتساهم في اختيار نوعية الكتاب الذي نود وصوله إلى القارئ الروسي، مع العلم بأن الدار ترحب بهذه المساهمة، وعدم ترك المسألة للعرض والطلب، أو لمزاج القارئ الروسي نفسه، الذي لا يختلف كثيرا عن مزاج القارئ الغربي المتعطش لقراءة قصص عن العنف ضد النساء العربيات وعن تخلفنا وهمجيتنا ليشعر مجددا بتفوقه علينا ولتتعزز نظرته الدونية تجاهنا، ولتصبح بالمحصلة دماؤنا بالنسبة إليه كالماء العكر، ولتصبح أرواحنا أرخص من أرواح الحيوانات ولتغدو بلادنا عبارة عن أرض يجب إنقاذها من الإنسان البدائي الذي يعيش عليها.
هذه التجارب الفردية هي في النهاية قطرات ماء عذبة إنما في بحر جاف، بحر بحاجة إلى تدفق الكثير من السيول علّه يقوى على تغيير طعم الملح في واقعنا.
لست أدري إذا كنا قادرين على ذلك ونحن غارقون في الغياب. غياب هناك ينتج غياباً هنا.
* روائية أردنية
ا
لقدس العربي "