ليس من باب الصدف
ليس من باب الصدف أن يقتسمَ الاستعمار والاستكبار العالمي- غربيه وشرقيه- على السواء، جميع بقاع العالم الإسلامي، وأن يمتصَّ خيراتِه ونعمَه، وينتهبَ موادَّه الأولية، ويستغلَ ثرواته المالية وطاقاته البشرية، وأن يوقف تقدّمه وتطوره، ويحيلَه مستهلكاً لمصنوعاته ومنتجاته، ويفسدَ أذواقه وعاداته، ويحطّمَ أخلاقه ومعتقداته، ويهدمَ أفكاره ومرتكزاته.
وليس من باب الصدف كذلك، أن تُتوَّجَ الحروب الصليبية بزرع إسرائيل والكيان الصهيوني الغريب، في قلب العالم الإسلامي (فلسطين)، وقبلة المسلمين الأولى (القدس).
كل ذلك لم يكن من باب الصدف، وإنما كان نتيجة طبيعية جداً للتمزق الفكري والتعدد السياسي لتلك الكيانات الإسلامية، التي انسلخت عن الإسلام، وللانهزام النفسي والصراع الداخلي بين حكام المسلمين وأمرائهم، الأمر الذي كان يدفع كثيراً منهم- بل جُلَّهم- للاستعانة بالأجنبي الطامع المستعمر، ضد منافسيه من حكام المسلمين الآخرين.
وفي المقابل، لم يكن من باب الصدف كذلك، أن تقوم الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني -طاب ثراه-، وأن تنجح في تأسيس دولة الإسلام في الأرض، وأن يمتد أثرها في أغوار الشخصية الإسلامية، وأعماق النفس الإنسانية، وإلى مختلف جوانب العالم الإسلامي، بمجتمعاته وشعوبه المتعددة، فتنطلق صرخات (الله أكبر) في كل مكان، وتنبثق التجمعات والجماعات الإسلامية بقوة ووعي ورسوخ قدم، تصارع وتكافح، وتغالب وتجاهد، وتهب رياح الإسلام مجلجلةً قوية، تزعزع عروش الطغيان والعمالة، وتقلق رؤوس الكفر، وتقض مضاجع الاستعمار والاستكبارالعالمي في الغرب، وخاصةً أمريكا والكيان الصهيوني اللقيط (إسرائيل).
أقول: لم يكن ذلك من باب الصدف، وإنما هو الوعد الإلهي للمسلمين، على لسان خاتم الأنبياء، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، منذ أربعة عشر قرناً، وها قد بدأ يتحقق الآن، والحمد لله.
فليس عبثاً أن ينزل الوحي من الله تعالى، على قلب نبيه محمد، ليقول له: كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( )، ولكنه سبحانه ربط ذلك بالجهاد، قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( )، ثم أكّد ذلك المضمون - من الوعد والشرط- بقوبه عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ( ).
وليس من باب الصدف كذلك، أن تنشب في الشرق الأوسط حربا الخليج، الأولى على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والثانية على دولة الكويت، بأداة غاشمة طاغية جاهلة كصدام حسين، الذي كان منذ البدء عميل المخابرات الأمريكية، وربيب سفارة أمريكا في بغداد.
إن قيام هاتين الحربين المدمرتين، وما أسفرتا عنه ونتج عنهما،لم يكن إلا بتخطيط أمريكي أوروبي إسرائيلي صليبي مسق، لإضعاف الجمهورية الإسلامية الوليدة في إيران، وهدر طاقاتها وطاقات الأمة الإسلامية جمعاء، بهدف منعها من إعاقة النموذج الإسلامي الحضاري الحديث، وإعاقة المد الإسلامي قدر الإمكان، بعد أن عجزوا عن خنقه ووأده، وتمهيداً لشن حروب صليبية جديدة على العالمين العربي والإسلامي.
ولئن رافق تلك الأحداث، انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك العالم الشيوعي، وسقوط القلعة الماركسية في العالم، تماماً كما تنبّأ الإمام الخميني قدس الله روحه الزكية ونفسه الطاهرة، في رسالته التاريخية المشهورة للزعيم السوفياتي غورباتشوف في 30/12/1988م، وأصبح العالم-كما بدا في ظاهر الأمر- أحادي القطبية السياسية، وقدّم الشيطان الأكبر مشروعه الاستبدادي الاستكباري لحكم العالم والسيطرة عليه، فيما سمّي بالنظام العالم الجديد.
وذلك أيضاً لم يحصل بمحض الصدفة، وإنما جاء نتيجة التخطيط المستمر الطويل، من القطب الغربي بزعامة أمريكا للتفرد بالعالم.
لئن حصل كل ذلك على الساحة العالمية الحاضرة، فإن مقتضى الوعد الإلهي للمسلمين والمستضعفين اليوم، أن ذلك المشروع الأمريكي لن يعدو أن يكون وهماً من الأوهام الخادعة، وحلماً من الأحلام الكاذبة، أدّى إليه الغرور والغطرسة: اسْتِكْباراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( ).
نعم إن الحقيقة المؤكدة التي لاغبار عليها، ولا لبس فيها ولا شك ولا ريب، أن القطبية الأحادية للعالم اليوم، ماهي إلا محض وهم خادع، ومجرد حلم كاذب، فارغ من أي معنى، بل هو تغطية على العجز الغربي الأوروبي والأمريكي على السواء، والأزمة الكبرى التي هو مقبل عليها، والتي ستضع العالم على كف عفريت فترة من الزمن، يحاول فيها الغرب جاهداً السيطرة على الأمور، واستعادة الإمساك بزمامها المضطرب، الذي سيؤدي لامحالة إلى التهاوي والسقوط، رغم كل الحروب التي ستثيرها هنا وهناك في العالم الإسلامي القوي بطاقاته وذخائره المادية والمعنوية، الضعيف بحكامه العملاء، والمتسلطين عليه بمعاونة الاستكبار العالمي ومساندته.
لكن النظام العالمي الجديد الذي تحلم به أمريكا، بالسيطرة على العالم كله من خلاله، لامتصاص خيراته وثرواته الظاهرة والباطنة، لرفع العجز القائم، وحل الأزمة المستحكمة، ومنع التهاوي والسقوط، هو مجرد غرور واستكبار في الأرض، فالإسلام موجود اليوم على أرض الواقع وجوداً واضحاً بيّناً، وما دام الإسلام موجوداً، فلن يتهيّأ لأمريكا أبداً، ولن يُسمح لها إطلاقاً، أن تكون القطب الأوحد في العالم اليوم.
إن الانهزام النفسي للمسلمين، والواقع المؤلم للعالم الإسلامي، والهجمة الشرسة من الاستكبار العالمي عليه وعلى المستضعفين في الأرض اليوم، لاينبغي أن يُنسينا القانون الإلهي الذي لايتخلف في الدفع والمدافعة، مادام للباطل على الحق جولة وصولة: قال تعالى:
وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ، وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ( )، وقال سبحانه أيضاً: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ).
هذا واقع العالم اليوم، وأما في غد، وإن غداً لناظره قريب، فمما لاريب فيه ولاشك، أن الإسلام- بعد صراع حضاري طويل، سيكون دامياً في كثير من الأحيان- سيكون هو القطب الأوحد في الأرض كل الأرض.
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ( ).
لكن الإسلام لن يكون قطب استكبار واستغلال واستعباد، وأنما سيكون القطب الذي ينشر الحق والعدل والتنور والهدى ، ويوقد البشرية إلى الخير والمحبة والتعارف والتعاون، ويأخذ بيد العالم كله إلى الحضارة الحقّة والمدنية المثلى، والعلم النافع المفيد، ويرتقي بالإنسانية أفراداً ومجتمعات إلى السمو والكمال.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ).
نعم ذلك هو الوعد الإلهي، ولا بد أن يتحقق ذلك الوعد قريباً، مصداقاً لقوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ( ).
ولن يطول ذلك اليوم بإذن الله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ ( )، نعم إن الصبح لقريب، وقريب جداً، بل هو أقرب مما يتصورون: ِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً(7) سورة المعارج.
ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ( ).
الخميس: 24شوال 1412هـ
26 نيسان 1992م
* * *