أحب قطرة إلى الله:
عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): "ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلا الله عز وجل".
إن قطرة الدماء تلك ربما تكون قطرة من جهة الحجم، وكلنها ليست كباقي القطرات، إنها تختصر كل شيء، إنها التوحيد الحقيقي الذي نطق به لسان العمل مع كل ما يتفرع عنه، هي إثبات الإخلاص حيث يرفع الإنسان يديه عن كل شيء ليتوجه نحو خالق كل شيء، هي تكبيرة الإحرام العملية التي يرفع فيها المؤمن يده تعبيراً عن نفض يديه من كل شيء، من الدنيا وما فيها من مال وجاه وفتن ويتوجه إلى الحق سبحانه وتعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}[1].
وقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "فوق كل ذي بر بر حتى يُقتل الرجل في سبيل الله".
لعل تلك القطرة حصلت في شهادة حدثت في لحظة من الزمن، ولكنها لحظة أشرف من سنين طويلة، وكأنها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تنزل فيها الملائكة لتبشر الشهيد وتحتضنه وترفعه إلى جوار الأنبياء والأوصياء، ترفعه إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
وكما يقول الإمام الخميني (قدس سره): "لا يمكن للألفاظ والتعابير وصف أولئك الذين هاجروا من دار الطبيعة المظلمة نحو الله تعالى ورسوله الأعظم وتشرفوا في ساحة قدسه تعالى"[2].
"إنهم النفوس المطمئنة الذين يخاطبهم ربهم بقوله: {ارجعي إلى ربك} فهنا البحث عن العشق واليراع لا يمكنه ترسيمه"[3].
لا تقولوا أمواتاً:
يعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف نتأدب أمام عظمة تلك الدماء، ففي الوقت الذي نجد فيه أن الموت حق وأنه أمر لابد منه، وأنه أمر طبيعي لكل الناس، وليس هو نقص، {إنك ميت وإنهم ميتون}[4]. رغم ذلك كله نجده سبحانه وتعالى يأمرنا بالتأدب أمام عظمة الشهداء {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}[5].
فرغم أن الموت ليس نقصاً وعيباً، لم يُرِد الله سبحانه وتعالى أن يطلَق على الشهداء، تقديماً وتشريفاً لهم حتى على المستوى اللفظى.
ومن اللفظ يتعمق الفارق حتى يكون حاجزاً نفسياً وحالة معنوية خاصة تخيّم بظلالها على ذكر الشهداء والتعاطي معهم {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}[6]، في حالة ترقِ قرآني من الحالة اللفظية إلى الحالة النفسية.
هذا التأدب الذي أشار إليه الإمام الخميني (قدس سره) بشكل واضح في كلماته حيث يقول في بعضها: "كيف يتمكن إنسان قاصر مثلي أن يصف الشهداء العظام الذين قال الله تعالى في حقهم {أحياء عند ربهم يرزقون}"[7].
ويقول أيضاً: "كل ما للدنيا فانٍ وكل ما لله يبقى، وهؤلاء الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون: لقد نالوا الرزق المعنوي الأبدي لدى ربهم لأنهم قدّموا كل ما وهبه الله إليهم وسلموا إليه الأمانة. ولقد قبلهم الله تبارك وتعالى ويقبل الآخرين، وأما نحن فلنأسف على أنفسنا إذ لم نكن معهم لنفوز معهم. إنهم سبقونا ووصلوا إلى السعادة ونحن بقينا في الوحل ولم ندرك القافلة لنسير في هذا المسير"[8].
لقاء المحبوب:
يقول الإمام الخميني (قدس سره): "هنيئاً لهؤلاء الشهداء ما نالوه من لذة الأنس، ومجاورة الأنبياء العظام، والأولياء الكرام، وشهداء صدر الإسلام، وأكثر من ذلك، هنيئاً لهم بلوغهم نعمة الله التي هي رضوان الله من أكبر".
إن لقاء الله سبحانه وتعالى هو حلم الأنبياء وأمنية الأولياء والشهداء، كل أمر يصبح بمقارنته أمراً تافهاً وصغيراً ولا قيمة له، هذه الأمنية هي من أهم الأمور التي يحصل عليها الشهيد بالإضافة إلى مجاورة الأنبياء والشهداء، لذلك نجد الآية الكريمة تؤكد على اللقاء الذي سيتفرع عنه كل رزق ونعمة {عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقو بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}[9].
يقول الإمام الخميني (قدس سره) في كلماته: "إنهم اتصلوا بعشقهم بالله العلي الكبير، بالمعشوق ووصلوا إليه ونحن لا زلنا في منعطف إحدى الأزقة"[10].
ويشرح لنا الإمام الخميني (قدس سره) كيف يمكن للشهادة أن تختصر الطريق وتصل بالشهيد إلى لقاء الله تعالى، فيقول في إحدى كلماته: "لربما كان السر في ذلك أن الحجب التي فيما بيننا وبين الله تعالى وتجلياته، تنتهي كل هذه الحجب إلى الإنسان نفسه، الإنسان هو الحجاب الأكبر وكل الحجب الظلمانية أو الحجب النورية تنتهي إلى الحجاب الذي هو الإنسان بذاته، فنحن الحجاب بين ذواتنا وبين وجه الله، فإذا أزال أحد هذا الحجاب في سبيل الله وانكسر الحجاب بفضل التضحية بحياته، فإنه يكون قد كسر جميع الحجب مثل حجاب الشخصية وحجاب الإنية، نعم ينكسر هذا الحجاب بالجهاد والدفاع في سبيل الله وفي سبيل بلاد الله والعقيدة الإلهية"[11].
نعم، إن الشهيد من خاصة أولياء الله سبحانه وتعالى، ترافقه العناية الإلهية وتحيط به في كل المسيرة التي يطويها الإنسان في جميع مراحله، فلنقرأ معاً هذه المسيرة.
الشهيد في الدنيا: فخر وعز
إن الحياة تحكي كل يوم على مسمعنا كيف يقتحم الشهيد القلوب ويحصل على ذلك العز العظيم والاستثنائي فيها.
والفخر الشامخ الذي يناله عوائلهم ومجتمعهم رغم كل الجراح.
وهذا ما أشار إليه الإمام الخميني (قدس سره) عندما قال عن العز: "الشهادة عز أبدي"، وعن الفخر "كانت الشهادة فخراً للأولياء وهي فخر لنا أيضاً"، "إن الاستشهاد في سبيل الله فخر لنا جميعاً".
الشهيد في البرزخ:
من المواطن الصعبة التي تنتظر الإنسان سؤال القبر، أو كما تعبّر عنه الروايات "فتنة القبر" حيث يأتي الملكان الشديدان ليسألا الإنسان عن ربه ودينه..
قد يتصور البعض أن الجواب سهل، فما أسهل أن تقول "الله ربي والإسلام ديني...". ولكن الحقيقة على خلاف ذلك، لأن عليه أن يجيب بلسان الصدق، حيث لا خداع ولا كذب في هذا اليوم العصيب. والصادق تطابق أقواله أعماله، لذلك سيكون الجواب صعباً جداً! هل كان محور حياته الله تعالى، هل كان خطه في هذه الدنيا ما رسمه الإسلام والحكم الشرعي؟ أم أن محور حياته كان الدنيا والأهواء {أرأيت من اتخذ إلهه هواه}[12].
في هذا اليوم الذي يقف فيه الإنسان خائفاً ذليلاً ينتظر من يعينه ويُنطق لسان الصدق فيه، أمام هول عذاب القبر الذي بدأ يقرع بابه، يكون فم الشهيد الصادق جراحه المفتوحة التي تشهد له بالعبودية والإخلاص!
ويشير الإمام الخميني (قدس سره) إلى هذه الجراح والقبر في كلماته حيث يقول في أحدها: "إن قبور الشهداء وأجساد المعوقين وأبدانهم هي لسان ناطق يلهج بعظمة أرواحهم الخالدة".
هذا الفم الذي لا يحتاج إلى النطق أصلاً، لأن الملائكة تستحي من سؤال الشهيد! نعم إنها تستحي حتى من سؤاله!
فعن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "من لقي العدو فصبر حتى يُقتل أو يغلب لم يفتن[13] في قبره".
ولما سُئل عن ذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة".
الشهيد في الحساب:
الحساب هو ذلك الموقف الصعب الذي يقف فيه الإنسان ليسأل عن كل كبيرة وصغيرة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}[14].
وهو من الأيام العصيبة والطويلة والشاقة حتى يقول فيه البعض {يا ليتني كنت تراباً}[15] في هذا اليوم الذي تشخص في الأبصار وترى الناس سكارى، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، إنه موقف مخيف وصعب جداً للناس.
ولكن هناك أشخاص استثنائيون لهم وضعهم الخاص في كل شيء حتى في هذا اليوم الصعب. لا يمسهم من هذا اليوم سوء لا تعب! إنهم الشهداء، فهم الذين تذلل دماؤهم الصعاب، ويمرون دون حساب! فهنيئاً لهم!
وقد روى عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من قتل في سبيل الله لم يعرفه الله شيئاً من سيئاته".
فكثير من المؤمنين ممن يغفر الله تعالى ذنوبه، ولكن المغفرة تكون بعد السؤال عن تلك الذنوب، وبعد الوقوف والخوف والتعرض لأهوال ذلك اليوم، أما الشهيد فقد أفادت هذه الرواية أنه ليس فقط يغفر له ذنبه، بل هو لا يُسأل عنها من الأساس ولا يقف ذلك الموقف الصعب، "لم يعرفه الله شيئاً من سيئاته"!.
وفي ذلك اليوم هناك الكثير ممن يتمنى الرجوع إلى الدنيا لعله يصلح ما أفسد {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت}[16]. والشهيد أيضاً يحب الرجوع ولكن لا ليصلح ما أفسد بل ليكرر عمله ويجدد شهادته!
وقد روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما من أحد يدخل الجنة يجب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء[17]، غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيُقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة".
فأي كرامة تلك التي خبأها الله تعالى للشهيد يا ترى؟!.
ويشير الإمام الخميني (قدس سره) إلى حقيقة أهم من ذلك كله، وهي أن الشهيد منشأ فخر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومباهاته يوم الحساب! حيث يقول (قدس سره): "الثورة ملآى من الشهداء الحسينيين. ونحن واثقون بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يباهي بتضحيات هؤلاء الأعزاء في الجبهة وبشهداء المحراب والمنبر وشهداء صفوف الجماعة والمساجد والمستشفيات. فمن الأحسن أن نضفي باستشهاد أولاد الإسلام والذرية الطاهرة على أمجاد الرسول العظيم يوم عرض الأعمال"[18].
مقام الشهيد في الجنة:
يقول الإمام الخميني (قدس سره): "هل يمكن بالاستعانة بالقلم واللسان توضيح التشرف أمام الله وضيافة المقام المقدس الربوبي؟ ألم يكن هذا المقام هو مقام {فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} الذي انطبق حسب الحديث الشريف على سيد المظلومين والشهداء (عليه السلام)؟ هل هذه الجنة هي تلك التي يُقتل فيها المؤمنون؟ وهل هذا التشرف والارتزاق عند الرب من المفاهيم البشرية أم أنه سر إليه خارج عن حيطة أفكار البشر؟
إلهي: ما هذه السعادة العظمى التي وفقت لها خواص عبادك وحرمتنا منها؟"[19].
وهكذا نجد أن الشهادة نور إلهي يرافق الشهيد في كل مراحل مسيرته الإنسانية، فهنيئاً له في الحياة وبعد الموت وفي الآخرة!
لنا الحق بعد ذلك كله أن نسأله: من أين جاء هذا المقام العظيم للشهيد؟
فلنرى معاً في الفصل الآتي، لعلنا نوفق إلى معرفة ذلك إذا اكتشفنا حقيقة الشهادة.
[1] سورة الأنعام، آية / 162.
[2] صحيفة النور، ج19، ص40.
[3] صحيفة النور، ج21، ص32.
[4] سورة الزمر، آية / 30.
[5] سورة البقرة، آية / 154.
[6] سورة آل عمران، آية / 169.
[7] صحيفة النور، ج17، ص104.
[8] صحيفة النور، ج14، ص161.
[9] سورة آل عمران، آية / 169 ــ 170.
[10] صحيفة النور، ج14، ص196.
[11] صحيفة النور، ج13.
[12] سورة الفرقان، آية / 43.
[13] أي أنه لم يُسأل سؤال القبر.
[14] سورة الزلزلة، آية / 7ــ8.
[15] سورة النبأ، آية / 40.
[16] سورة المؤمن، آية / 99ــ 100.
[17] يعني لا يجب الرجوع لو أعطى كل ما على الأرض.
[18] صحيفة النور، ج15، ص63.
[19] صحيفة النور، ج20.