* التكامل في عالم البرزخ
ينبغي بنا أن نقول أنه يوجد فرق في كسب الفضائل، لأن التجرد العقلاني ـ وبمجرد الخروج من دار الطبيعة ـ لا يكون كاملاً، بل هناك برزخ موجود أيضاً، ويجب اجتياز ذلك البرزخ بالحركة الجوهرية، والدخول إلى التجرد العقلاني الصرف. فالبرزخ موجود للجميع وإن لأهل البرزخ وجود برزخي، وهو وجود بين التجرد العقلاني والوجود الجسماني الطبيعي، لذا فإن جنة السعداء ستكون جنة برزخية، وجهنم الأشقياء ستكون جهنم برزخية. وإن عالم البرزخ هو مرتبة قهرية من مراتب الوجود، وإنه قهري للجميع، بيد أن الذين كسبوا في هذا العالم الفضائل والمطالب العقلائية يكون طريقهم البرزخي قصيراً، ويصلون بسرعة إلى عالم التجرد العقلاني. ولهم سير برزخي أقل، وحركة جوهرية برزخية سريعة لأنهم أكثر استعداداً لنيل التجرد العقلاني بفضل كسبهم للفضائل العقلانية. وكذلك الذين كسبوا الرذائل، فانهم يصلون بسرعة إلى جهنم التجرد الكامل ولا يتأخرون كثيراً في جهنم البرزخ.
* عالم القبر أو عالم البرزخ
إن خروج الإنسان من هذا العالم بأي شكل من الأشكال يعني الدخول في عالم القبر، وإن عالم القبر هو عالم البرزخ نفسه. سئل الإمام الصادق (ع): ما القبر؟ قال "القبر هو البرزخ". وبالجملة فإن صريح الروايات أن البرزخ متعين في عالم القبر. والبرزخ يعني بقاء الإنس بالطبيعة، وعندما ينتهي هذا الانس بسبب البروز والظهور والغلبة التي لعالم الغيب، فإن التوجه لدار الطبيعة ينقطع، وانتهاء هذا الانس يعني البعث والقيامة الكبرى. لذا فإن لكل إنسان برزخ يختلف عن برزخ الآخرين. وإن التوقف في عالم القبر يختلف باختلاف انس الأشخاص بدار الطبيعة، إلا أن هذا لا ينافي اجتماعهم يوم القيامة، لأنه لا يوجد غيب في ذلك العالم، ولا يوجد مكان وزمان حتى يحصل البعد، أو أي سبب آخر لبعد الحضور. فالكل مجتمعون ويرى أهل الجنة أهل النار وبالعكس، لأن الجنة والنار فوق الزمان والمكان.
* كيفية بقاء النفوس في البرزخ
من الطبيعي أنه لا يمكن القول أن جميع النفوس سوف تصبح مجرد عقلانية، وستصل إلى تلك الدرجة والسعادة، فمثل هؤلاء الأشخاص قليلون. وإن قليلاً من الأنبياء والأولياء والمؤمنين الخلص والمخلصين سوف يصلون إلى تلك الدرجة من السعادة. وإن عدد هؤلاء في العالم قليل جداً، ولا يشملهم العذاب والعقاب، وإنهم في روح وريحان ومتنعمين بالنعم الإلهية. ولا توجد عندهم قوة تخيلية. وهذا لا يتنافى أن نقول بأن لهم أبداناً بدون أن يكون لهم قوة متخيلة. بل حتى إنهم لا يطلبون المأكولات وحور العين والجنة، فإنهم متنعمون بأمور أسمى من المأكولات وحور العين والجنة، ويتلذذون بها.
وأما عموم الناس فإنهم صنفان، صنف من السعداء المتوسطين، وصنف آخر من أهل المعاصي، وإن هذان الصنفان لا يصلان إلى التجرد العقلاني المحض، بل إن تجردهم برزخي، ولهم أبدان برزخية، نعم قوة الخيال مجردة، إلا أن تجردها ليس تاماً، بل تجرداً برزخياً ولا يوجد عندنا مانع عن التجرد البرزخي للقوة المتخيلة.
إضافة إلى ذلك، فإن عذابهم ومشاكلهم هي من الادراكات، مثلما أن مشاكلنا العقلية هي من الإدراكات أيضاً، وإنه لا يوجد عذاب في ظل غياب الإدراك. فكلما قوي الإدراك اشتد درك الآلام. وبما أن إدراك النفس في البرزخ وبعد الموت يكون أكبر، فإنها مجال للتجارة هناك، لكنه يأخذ متاعه معه من هذه الدنيا، وتتحد الملكات التي اكتسبها مع ذاته. وقد تكون شخصيته مجسمة من الغضب، لأنه كان غضوباً هنا، وهذه الصفة قد اتحدت مع ذاته وأصبحت ملكة، ويظهر هناك باطن ذاته، وتنشئ النفس صوراً طبق نفس الملكة التي كانت في هذا العالم وهي الصور المناسبة للغضب.
وبالجملة فلأن الغضب قد اتحد مع ذاته، فإن ذاته هي فعلاً حقيقة الغضب، وكل ما تنشئه النفس، فأنه يطابق نفس الذات. لا أن منشآت النفس هي صور ذهنية فقط، بل إن منشآت النفس هي صور عينية، ولها وجود عيني. فالنفس وصلت إلى الكمال. وكل ما تنشئه له وجود خارجي، وإن كانت النفس في هذه الدنيا ـ بسبب ضعفها ـ إنما توجد صوراً ذهنية فقط.