الفوعة في ذاكرة مغترب
إن الغربة هي صحن نأكل منه ، مرة ملعقة حلوة المذاق و أخرى مرة المذاق
و الغربة غابة و نحن أنهار تجري فيها تائهين ، فمرة نجلس على ضفافها ننتظر مراكب المجهول و مرة اخرى نصعد إلى سفنها و نسبح عرض أنهارها لربما نصل إلى المبتغى ، و في برهة من الحيرة أدخل خيمة الانتظار لأركب صهوة ذاكرتي و أرجع إلى الخلف إلى أيام كانت فيه الفوعة فتاة ريفية لا تعرف إلا الصدق و المحبة و البساطة
الفوعة تلك العروس التي ترتدي أكاليلا ملونة بكل ألوان الطبيعة و كل الفصول
الفوعة هي أيام رمضانية و غروب شمس و سحور هي محبة الجار لجاره
فيها تعلمت كيف أتذكر جيراني عندما نطبخ أكلة شهية فأصب لهم من رأس المعون و أدق الباب و لأقدمه لهم كضيافة و محبة
الفوعة هي ذلك السوق الكبير المرصوف بحجارة ( البلاط من الحجارة ) تتكلم تاريخا عريقا ، ذلك السوق الذي كان يعج بالبشر الطيبين و تجار البطيخ الفوعي و التين، و العجور، و الفضال ن و الزيتون و الخيار و البندورة وووو ... و ....
الفوعة هي كل المواسم و خاصة موسم قطاف الزيتون ، و الارض و الزوادة ، و خبز التنور المدهون بزيت الزيتون و الكمون ، و الكبة النية بالفليفلة الحمراء و البصل الاخضر و ..... و ..
الفوعة هي مواسم عصر الزيتون و أكل الزنانة ( الزنانة هي خبز التنور الساخن المغطس بالزيت الطازج و في المعصرة مباشرة )
الفوعة هي الدروب الترابية الحمراء و الحمير و الاحصنة تجر وراءها عربات مصنوعة من الخشب تجلس فيها العائلات والاطفال بعيونهم فرح الدنيا لأن الموسم خير و وفير
الفوعة هي آثار و تاريخ ، مثل المصنع ، و المشهد، و المغارات التي تعود إلى العهد الروماني و التي تجري فيها بكل مكان كالعروق في الجسد ، و القبب الحوارية ( الشونة ) ، و كذلك الدور التي تحتوي على غرف كبيرة تسمى المصلب و المبنية بطرقة هندسية و لا أجمل و ، بجدران سميكة يطبقات من الحوار و الطين و الحجارة و الطريش ( الطريش هو نبات يأحذ منه زهره و هو عبارة عن وبر نباتي و يخلط بالطين ليستعمل في بناء البيوت و يساعد على تمتين البناء و التماسك )
الفوعة هي تلك البيوت الشاسعة التي تنبت فيها كل الورود و الخضار و يتجاور فيها الزهور مع البصل و الثوم
الفوعة هي أيام السمر و السهر مع الاقارب و الجيران و الجدة و الجد حول الموقد على حصير من القش و الاستماع منهم إلى حكايا أيام زمان و عنترة و عبلة و الزير سالم و الجنيات و الضبع و رباب و أخواتها الثلاث
الفوعة هي التدريجة عند غروب الشمس على الكروزة نساء و رجال ، أو على طريق السبيل بين أحضان الطبيعة الخلابة ، السبيل ذلك المكان الاثري الذي يعود إلى العهد الروماني و هو عبارة عن حفرة كبيرة بشكل هندسي معين ، محفور في الصخر على مكان مرتفع من الضيعة تتجمع فيه المياه و تخزن أيام الشتاء لتجر بعدها إلى السكان فيشربون منه و يسقون دوابهم و زرعهم في البيوت ،،، و كم مرة سبحنا فيه أيام الطفولة و وقعت أشيائنا في مياهه
الفوعة هي تلك الازقة الدافئة الآمنة كبيوت الله
الفوعة هي حنان و عطف جدتي و أنسها وأ كل الزبيب و التين المجفف و دبس العنب و السمبوسك و الزنكل ( اللقم ) و حكاياها اللطيفة ، و ماء الجب ( البئر ) في أرض الديار الذي يروي كل المارين من العطاش
الفوعة هي المدرسة الغربية و أبوابها الخشبية القديمة و باحتها الكبيرة التي كنا نجوبها ركضا مئات المرات
الفوعة هي هؤلاء البائعون المتجولون الذي يبيعون الفول و الحمص بالليمون و الكمون و البوظو و الكعك الساخن
الفوعة هي تلك الدجاجات و الديك بعرفه الاحمر الشامخ و البيض البلدي ، و لبن االغنم الصافي الذي لا يمسه الماء ، و طعم البندورة العدي ( البعل ) المذ اللذيذ
الفوعة هي الفرح و الاعراس و الدربكة و الطبل ، هي تلك العراضة الرائعة للعروس عندما ياخذوها من بيت أهلها بحشد كبير من أهل الضيعة ، فمن يقرع الطبل و من يدق على الدربكة و من يعزف على الناية أو الزمر أو الشبابة
مارين بازقتها ، و هم يغنون أجمل الاغاني الفولكلورية التي تهلل للعروس و تشيد بالعريس و أهلهم ، و كم جميلة هذه المواويل بصوت حي و دون ميكروفون تسمعه كل الضيعة ،، و كم جميلة هذه التوقفات خلال مسير العراضة بطلب من أحد أصحاب البيوت الواقعة على خط سير العراضة ، و هو يقف على السطح و في يده ابريق من الماء مهددا برشق العراضة بالماء إذا لم يغني له فلان من الناس موالا أو يسمعه أغنية ، و كانت غالبا تمر العراضة بسلامة و دون رشق المياه عليها بسبب الاستجابة لطلب الطالب
الفوعة هي الاراضي الشاسعة من السهول و دفء الألوان ، و كروم الزيتون و التين و العنب الفوعي الشديد الحلاوة
الفوعة هي عيد الفطر و عيد الأضحى و العيدية و المراجيح ن و قبلات أمي و أبي و ستي ، و التكبير في الجامع الحلويات و كعك العيد و النشاء و أقراص خبز النشاء و الزيارات للأقارب و الجيران و المقبرة و قراءة الفاتحة و توزيع المال على المحتاجين ،، الفوعة هي الخير و المحبة و سعادة الاطفال
الفوعة هي أساتذتي الموقرون، الذين زرعوا في كثيرا من البذور لتنبت في داخلي خصائل الانسان الذي كلما ابتعد عن وطنه بالمسافة زاد منها قربا
الفوعة ستبقى فلذة كبدي في وطني الاكبر ، و ستبقى الحب الابدي الذي لا ينتهي
هذه هي فوعتي
يتبع