لا شك أنها أعجبت بذلك الشاب الموظف حديثاً في دائرتهم .. إنه وسيم وأنيق وهادئ بل متطرف في هدوئه ولا يكاد يتكلم إلا للضرورة الملحة وقد أحضروا له طاولة وكرسياً ووضعوهما قريباً من طاولتها بحيث تراه ويراها.. رأته يتصبب عرقاً في أول يوم داوم فيه وهو يشعر بأنظار الموظفين كلهم تنصب عليه وتكاد تخترق ملابسه .. يخرج منديله .. يجفف به جبينه بيد مرتبكة ولا يكاد يرفع نظره خجلاً .. يوماً فيوم اعتاد جو العمل وأصبح محط احترام وتقدير كل من يعرفه فهو متفان في عمله جدي ولا يتوانى عن مد يد العون للزملاء الذين راحوا يعتمدون عليه للقيام بالكثير من واجباتهم دون اعتراض منه .. كانت هي فتاة عادية الجمال في آخر العقد الثالث من العمر مائلة للبدانة بعض الشيء إلا أن لديها روحاً مرحة ودعابة حاضرة وحضوراً قوياً .. عندما استقر الوافد الجديد قريباً منها تحايلت حتى نظرت إلى كفيه ولم تلاحظ وجود خاتم في أي منهما .. لقد أصبح النظر إلى أكف الرجال عادة لا إرادية تسبب لها الإحراج أحياناً .. على كل شعرت بالارتياح مبدئياً لعدم ارتباطه وقالت في سرها عسى أن يجعله الله من نصيبي .. من يدري ؟! .. لقد أصبحتْ على مشارف الثلاثين ولم يتقدم أحد لخطبتها كانت تفكر: بعض الشباب يفضلون البنات الصغيرات السن ذوات القدود الممشوقة أو اللواتي يملكن شهادات عالية ذات مردود مادي جيد وإذا جمعت البنت هاتين الخصلتين فهي كنز لا يقدر.. المهم أنها لم تحظ لا بهذه ولا بتلك إلا أنها استطاعت أن تحافظ على نفسها وتصون كرامتها وكل من يعرفها يحترمها ويقدرها ويتمنى لها الخير.
أما هو فبعدما استقر به المقام في مكانه الجديد وجلس إلى طاولته وجفف عرق الحياء والارتباك راح يجيل نظره في أنحاء الغرفة بسرعة ودون تركيز ثم جاء الموظفون سلموا عليه ورحبوا به زميلاً جديدًا بينهم وانقضى ذلك اليوم طويلاً مليئاً بالحرج والارتباك ..
بمرور الوقت بدأ ينسى مكان العمل السابق الذي انتقل منه بعد فشل مشروع خطبته الأولى من إحدى زميلاته .. الفشل الذي أثر كثيراً على روحه الحساسة وداخله الشفاف .. لم يستطع أن يتأقلم مع تلك البنت رغم أنها لا تشكو من عيب إلا أنها كانت تطلب منه دوماً أن يكون حازماً وتقول له : إن الحياة تتطلب منه أن يكون ذا رأي حاسم نشيطاً دائب الحركة وحتى وقحاً في بعض المواقف ! ولا يعرف لماذا كانت تكرر عليه هذا الموشح وفي آخر مرة التقيا فيها انفجرت في وجه سكوته وثارت ثم بكت بحرقة ..سكتت بعدها وبهدوء سحبت خاتم الخطبة من إصبعها ووضعته أمامه وخرجت ولم ينبس بحرف واحد من أول اللقاء إلى آخره وكان هذا آخرَ عهده بها..
في أحد الأيام التي تسبق العيد غاب الموظفان اللذان يشاركانه الغرفة وبقي هو مع الموظفة المكتنزة التي تقعد قبالته تقريباً والتي لاحظ منذ البداية نظراتها الخجلى نحوه والتي استغربها في البداية ثم ما لبث أن بدأ يبادلها بنظرات مماثلة مرتبكةٍ ومبهمة ! في ذلك اليوم الذي كثر فيه غياب الموظفين صنعت فنجاني قهوة لها وله وبدأت حديثها بسؤاله عن انطباعه عن دائرتهم وهل هو مرتاح معهم ثم انتقلت بذكاء إلى سؤاله بشكل غير مباشر عن حياته الخاصة فأخبرها أنه يعيش مع والدته في بيت كبير وأن أمنية أمه هي تزويجه ورؤية أولاده يملؤون عليها البيت حركة وصخباً وكيف أنها حزنت لفشل خطبته الأولى وتمنت عليه أن يسرع بالارتباط بفتاة أخرى مناسبة .. كان يتحدث إليها وعيناه تتنقلان من الطاولة إلى الجدار إلى يديه متحاشياً النظر إلى وجهها وجبينه يتصبب عرقاً ..! وهكذا مضى ذلك اليوم سريعاً لذيذاً بالنسبة إليها حتى أنها لم تنم ليلتها فرحاً أما هو فبرغم الإحراج فقد اعترف لنفسه أنه سُرَّ بهذا الحديث وسأل نفسه كثيراً : أتكون هذه هي الفتاة التي يبحث عنها؟ ماذا لو كانت مرتبطة بشخص آخر ؟ ماذا لو كان قلبها مشغولاً أو أنها لم ترض به إذا تقدم إليها ؟ أو أنها لم تعجب أمه !.. وخلص إلى أنه يجب أن يتروى قليلاً فالأيام قادمة والوقت متاح وهو كفيل بالإجابة عن تساؤلاته .. أما هي فقد رأت فيه شاباً تتمناه كل فتاة وهي أولهن وبالنسبة لموضوع الخجل والتردد فالزواج قادر على محيهما مع الوقت وبالعكس أن يكون خجولاً أفضل من أن يكون جريئاً يتنقل من فتاة إلى أخرى وبدأت ترسم في مخيلتها صوراً جميلة للمستقبل المشرق مع العريس الموعود .. جلُّ ما كانت تتمناه هو أن يلمح بكلمة أو إشارة إلى هذا الموضوع وقد أبت عليها أنوثتها وكرامتها أن تبادر هي..
لا تعرف كم من الوقت مر على هذا اللقاء فقد ضاع عندها الإحساس بالوقت لكنها بدأت تلاحظ بعض الشيب يزين رأسها ومازالت تأمل بفك عقدة لسانه دون طائل برغم أنها تنازلت عن بعض كبريائها وتجرأت ولمحت له بإيحاءاتٍ يفهمها الإنسان البسيط .. أما هو .. فكان دائم التساؤل عن قبولها به ويقارن مع تجربته السابقة ويعطي لنفسه فرصة جديدة لاسيما بعد بلوغه الأربعين حيث أضاف إلى مجموعته تساؤلاً آخر : أبعد هذا العمر وقد ابيض نصف شعري ؟ .. مسكينة أمي ماتت كمداً ولم أحقق لها أمنيتها بالزواج والإنجاب .. الإنجاب ؟!! وتوقف عند هذه الكلمة ماذا لو تزوجتها ولم تنجب بعد هذا السن ؟ ....
ما زالا هناك يجلسان متقابلين هي تأمل أن يتخذ قراره ويعزم ويتقدم لخطبتها أو على الأقل .. يلمح .. وهو غارق في تساؤلاته عن قبولها وعن كلام الناس بسبب العمر وعن مدى كفاءته بعد كل هذه السنوات !! .