* حقيقة الموت
عندما يظهر أكثر الأجسام اعتدالاً لدى الجنين أي المخ، فهذه آخر درجة للجسم وهو عرش الجسم. وعندما يتحرك هذا المخ فإن أول ما تتولد هي مرتبة الإحساس، لأن الجسم بجوهره بواسطة الحركة قد انقلب إلى مس اللمس، ولأن هذا الحس قريب من الجسم، وآخر مرتبة الجسم أول مرتبة الحس، لذا فانه حالٌّ في الجسم ويتحرك تدريجياً، وتظهر المشاعر والاحساسات الأخرى وتظهر قوة الخيال. وعندما يترقى هذا الإحساس، فإن آخر مرتبة عالم الطبيعة هي أول مرتبة التجرد. وعندما تكتمل هذه القوىتدريجياً، وتتجه نحو عالم الغيب، فتحصل الوحدة نتيجة لذلك وهي النفس. والنفس بوحدتها تجمع وتحوي هذه الكثرات، وتتحرك تدريجياً. وما دامت في الطبيعة، فإنها تجرد نفسها خارج الطبيعة من خلال الحركة الجوهرية مرتبةً فمرتبة، وفي حين أنها قد تجردت منها مرتبة، فإن المرتبة الأخرى طبيعية، وفي الحقيقة اختلاط عالم الغيب والشهادة هو اختلاط الطبيعة والتجرد، واختلاط الكثيف واللطيف، حتى تجر نفسها خارج الطبيعة من خلال سيرها التكاملي، وتنضم إلى قافلة المجردات. وفي الحقيقة فإن هذا سفر قد نهض من أول نقطة للطبيعة وعالم الهيولي، وتتقدم مع كائنات عالم الطبيعة التي كانت ترافقها ثم تتقدم على الطبيعة حتى تصل حدود الطبيعة والتجرد. وعندما ترفع قدمها من آخر مرتبة في عالم الطبيعة، فإنها تضعها في أول مرتبة من عالم التجرد، وتجتاز عالم الشهادة إلى عالم الغيب. وعندما تعبر حدود الطبيعة والتجرد، فإنها تودع قافلة الطبيعة. وهذا هو الفراق الذي نسميه بالموت. وإن هذا الفراق قهري وطبيعي، وهذا الوداع وداع إجباري، وهذا السفر جبلي. {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
* التجرد العقلاني أو التجرد الشيطاني
إن الوصول إلى عالم التجرد لمادة وقعت في طريق الإنسانية هو قهري وطبيعي، وهذه طريقة حقة وذاتية لهذا الطريق والصراط، فكما أنه لو وضعنا خطاً مستقيماً بين نقطتين وتحرك شخص ما من النقطة الأولى على طول الخط، فإنه سوف يصل أخيراً إلى النقطة الثانية. كذلك الحركة الإنسانية من أول صورة كانت في المادة الأولية، وتستمر الحركة حتى تصل أفق الطبيعة. وعندما تتجاوز صفحة عالم الطبيعة، فإنها تصل إلى عالم التجرد. بيد أن الإنسان عندما يخرج من الطبيعة، فانه يمكن أن يكون في ساعة الخروج إما مجرداً عقلانياً، أو مجرداً شيطانياً. ويكون الإنسان بالنتيجة إما مجرداً سعيداً، أو مجرداً شقياً. نعم إن الذهاب إلى عالم التجرد هو أمر قهري، إلا أن الإنسان قد يربح في هذا السفر الإجباري، أو يتضرر فيصبح إما شيطاناً مجرداً، أو إنساناً مجرداً.
* الاحتضار ومشاهدة صورة الأعمال
إن الإنسان لدى سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها، ويسمع من ملك بشارة الجنة أو الوعيد بالنار. وكما أن هذه الأمور تنكشف عليه قليلاً، كذلك فإنه يعاين الآثار التي تركتها أعماله وأفعاله في قلبه من النورانية وشرح الصدر ورحابته أو اضدادها أيضاً من الظلام والكدورة والضغط في الصدر. فإن كان من أهل الإيمان والسعادة، يستعد قلبه عند معاينة البرزخ لمشاهدة النفحات اللطيفة اللُطفية والجمال، وتظهر فيه آثار تجليات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحب للقاء الله، وتشتعل في قلبه جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب. إن كان من أهل الحسنى وحب الله والجذبة الربوبية، ولا يعرف أحد إلا الله مقدار اللذات والكرامات الموجودة في هذا التجلي والاشتياق.
وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، فتغدق عليه من كرامات الله المتعالي بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار بالعيان، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الله ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسرور والروح والريحان، ولا تطيق الأعين المُلكية والذائقة المادية، رؤية هذه الكرامات، ومشاهدة البهجة والفرح.
وإن كان من أهل الشقاء والجحود والكفر والنفاق والأعمال القبيحة والأفعال السيئة، انكشف عليه بقدر نصيبه من دار الدنيا، وما وفّره واكتسبه لنفسه منها ـ نموذج من آثار السخط الإلهي والقهر ـ دار الأشقياء، فيدخل الذعر والهلع في نفسه بدرجة لا يكون شيء أبغض عنده، من التجليات الجلالية والقهرية للحق المتعالي، وتستولي عليه من جراء هذا البغض والعداوة الشديدين الضغوط والظلام والعصاب والعذاب، لا يعرف حجمها أحد إلا الذات الحقة المقدسة. وهذه المحن تكون لمن كان من الجاحدين والمنافقين ومن أعداء الله وأعداء أوليائه في هذه الدنيا. وينكشف على أهل المعاصي والكبائر، بقدر اجتراحهم للسيئات، نموذجاً من جهنمهم، فلا يكون شيء عندهم أبغض من الرحيل من هذا العالم، فيُرحلون بكل عنف وقصوة وعذاب، وفي نفوسهم ـ في تلك الحال ـ حسرات لا تقدر بقدر.
ويستفاد من هذا البيان أن الإنسان لدى الاحتضار والمعاينة، يشاهد ما كان فيه وهو غير واقف عليه، وأنه بذر بنفسه بذر هذه المعاينة والمشاهدة في عالم وجوده.
إن الحياة الدنيوية، كانت ستاراً ملقىًّ على عيوبنا، وحجاباً على وجه أهل المعارف، وعندما يزاح هذا الستار، ويُخترق هذا الحجاب، يرى الإنسان نموذجاً مما أعده، ومما كان فيه.
إن الإنسان لا يرى في العوالم الأخرى من العذاب والعقاب، إلا ما وفّره وهيّأه بنفسه في هذه الدنيا، وكل ما أنجزه في هذا العالم من الأعمال الصالحة والخلق الحسن، والعقائد الصحيحة؛ فإنه يرى صورته في ذلك العالم بالعيان، مع رؤيته لما يتفضل عليه الحق المتعالي بلطفه من الكرامات الأخرى.