[right]في يوم العاشر من جمادي الثاني سنة 1320هـ.ق الموافق للثلاثين من شهريور عام 1281هـ.ش (24 أيلول 1902م) رأى النور في هذا العالم رجل كبير اسمه روح الله الموسوي الخميني، ولد لعائلة من أهل العلم والهجرة والجهاد من ذرية السيدة الزهراء الطاهرة (سلام الله عليها)، وذلك في مدينة خمين من توابع المحافظة المركزية في إيران.
ورث روح الله سجايا آبائه وأجداده الذين عملوا جيلاً بعد جيل في إرشاد الناس وهدايتهم وتحصيل العلوم والمعارف الإلهية، فكان والده الجليل المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي من معاصري المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رضوان الله عليه) وقد أمضى عدة سنين في النجف الأشرف للاستزادة من العلوم والمعارف الإسلامية نال إثرها درجة الاجتهاد وقفل راجعاً إلى إيران فأقام في خمين ليكون هناك ملاذاً للناس ومرشداً وهادياً لهم في شؤونهم الدينية. لم يكن قد مضى على ولادة روح الله أكثر من خمسة شهور، حينما انبرى الطواغيت والإقطاعيون المدعومون من قبل الحكومة آنذاك فردّوا بالرصاص على نداء الحق والعدالة الذي أطلقه والده حين تصدى لتعسفهم وجورهم، فنال وسام الشهادة على أيديهم وهو في طريقه من خمين إلى أراك. توجه أقارب الشهيد إلى طهران (عاصمة الحكومة) للمطالبة بتطبيق حكم القصاص الإلهي في حق قاتله، وأصروا على تنفيذ العدالة إلى أن تم لهم ما أرادوا ونفّذ القصاص بحق القاتل. وهكذا خبر الإمام الخميني منذ نعومة أظفاره آلام اليتم وتعرف على معنى الشهادة وأريجها. قضى الإمام الخميني أوان طفولته وصباه في ظل رعاية والدته المؤمنة (السيدة هاجر) وهي بدورها من بيت علم وتقوى وإحدى حفيدات المرحوم آية الله الخوانساري (صاحب زبدة التصانيف) وكذلك في كنف عمته الكريمة (صاحبة خانم) التي كانت سيدة تميزت بالشجاعة وطلب الحق، لكنه عاد ليُحرم حنان هاتين المرأتين العزيزتين في سن مبكرة حينما كان في الخامسة عشرة.
[color=red]الهجرة إلى قم، الدروس التكميلية، وتدريس العلوم الدينية
بعد فترة من هجرة آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (رحمة الله عليه) إلى مدينة قم في النيروز من عام 1300 هـ.ش (1921م) الموافق لرجب المرجب سنة 1340هـ.ق، توجه الإمام الخميني بدوره إلى الحوزة العلمية في قم، واجتاز بسرعة مراحل الدراسات التكميلية في العلوم الدينية لدى أساتذة تلك الحوزة، و يمكن الإشارة هنا إلى دراسته تتمة مباحث كتاب «المطول» في علم المعاني والبيان على يد المرحوم آقا ميرزا محمد علي أديب طهراني، وتكميل درس السطوح عند المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخوانساري، ومن قبله المرحوم آية الله السيد علي يثربي كاشاني، ودروس الفقه والأصول عند زعيم حوزة قم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (رضوان الله عليهم أجمعين). بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزدي، أثمرت جهود الإمام الخميني وثلة من المجتهدين في حوزة قم العلمية، فتوجه آية الله العظمى السيد حسين البروجردي (رضوان الله عليه) إلى قم زعيماً لحوزتها العلمية. في ذلك الحين كان الإمام الخميني أحد الأساتذة والمجتهدين المعروفين الضالعين في الفقه والأصول والفلسفة والعرفان والأخلاق، إذ درّس طوال سنوات متمادية دورات عديدة من الفقه، والأصول، والفلسفة، والعرفان، والأخلاق الإسلامية في الفيضية، ومسجد أعظم، ومسجد محمدية، ومدرسة الحاج ملا صادق، ومسجد سلماسي، و... كما درّس الفقه ومعارف أهل البيت على أرفع المستويات طوال 14عاماً في مسجد الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله) في النجف الأشرف، وفي النجف أيضاً طرح لأول مرة المرتكزات النظرية للحكومة الإسلامية ضمن سلسلة دروس ولاية الفقيه.
في خندق الكفاح والنهضة
كان لروح الكفاح والجهاد في سبيل الله جذورها في الرؤية العقيدية والتربوية والبيئة العائلية والظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها الإمام الخميني طوال فترة حياته. انطلق نشاطه النضالي منذ فترة شبابه الأولى وتكامل بتكامل أبعاد شخصيته الروحية والعلمية من ناحية، وتطور الواقع السياسي والاجتماعي في إيران والمجتمعات الإسلامية من ناحية ثانية. وكانت لائحة الولايات والإمارات التي أطلقتها الحكومة الإيرانية في سنة 1961 و1962م فرصةً مناسبة ليمارس الإمام الخميني دوره في قيادة الثورة وعلماء الدين، وبهذا اندلعت انتفاضة الشعب وعلماء الدين الشاملة في 15 خرداد 1342ش (5/6/1963م) بسمتيها البارزتين: قيادة الإمام الخميني الواحدة، وإسلامية شعاراتها ودوافعها وأهدافها، وكانت بدايةً لفصل جديد من كفاح الشعب الإيراني الذي عرف في العالم لاحقاً باسم الثورة الإسلامية.
يسرد الإمام الخميني ذكرياته عن الحرب العالمية الأولى حينما كان حدثاً في الـ 12 من عمره فيقول: «أتذكر كلا الحربين العالميتين... كنت صغيراً لكنني في المدرسة، وكنت أرى الجنود الروس في نفس المركز الذي كنا نرتاده في مدينة خمين، وكنا عرضة للهجوم والعدوان في الحرب العالمية الأولى».
يذكر الإمام الخميني في مناسبة أخرى أسماء بعض الإقطاعيين والجائرين الذين سطوا على أموال الناس وأعراضهم في ظل دعم الحكومة المركزية، فيقول: «كُنت في حالة حرب منذ طفولتي... كنا عرضة لاعتداءات أمثال «زلقي» و«رجب علي»، وكنا نحمل البنادق بأنفسنا، وأنا شخصياً مع أني كنت في بداية سن البلوغ، أو كنت طفلاً، لكنني كنت أذهب للخنادق المقامة في منطقتنا حيث كان الأعداء ينوون الهجوم علينا ونهبنا، كنت أذهب وأتنقل بين الخنادق».
انقلاب رضا خان في الثالث من اسفند 1299ش (22/2/1921م) الذي أعد له ودعمه الإنجليز كما تشير الوثائق التاريخية الدامغة، مع أنه أنهى عهد الحكومة الملكية القاجارية وقوّض إلى حد ما من حكومة ملوك الطوائف التي صال وجال فيها الإقطاعيون والشقاة على نحو مضطرب فوضوي، لكنه في مقابل ذلك كرّس حكماً دكتاتورياً تسلطت فيه العائلة الكبرى على مصير الشعب الإيراني المظلوم، وتولّت العائلة البهلوية بمفردها الدور الذي كان يمارسه الإقطاعيون والشقاة قبل ذلك.
كان علماء الدين الإيرانيون بعد أحداث ثورة الدستور عرضةً، من ناحية، لهجمات متتالية تشنها ضدهم الحكومات المركزية الإيرانية العميلة للإنجليز، وهدفاً، من ناحية ثانية، لهجمات واعتداءات المستنيرين التغريبيين. في مثل هذه الظروف العصيبة هبّ رجال الدين للدفاع عن الإسلام والحفاظ على وجودهم وكيانهم. فهاجر آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري من أراك إلى قم بدعوة من علمائها.
بعد مدة وجيزة وظّف الإمام الخميني موهبته الاستثنائية لاجتياز دروس المقدمات والسطوح في حوزات خمين وأراك بسرعة ملحوظة وانتقل عقب ذلك إلى قم فساهم عملياً في تكريس مكانة الحوزة الفتية في هذه المدينة. ولم يمض وقت طويل حتى ذاع صيته في عداد الفضلاء المميزين الذي احتضنتهم هذه الحوزة في حقول العرفان والفلسفة والفقه والأصول. بعد وفاة آية الله العظمى الحائري (10 بهمن 1315ش 30/1/1937م) تعرضت الحوزة العلمية في قم لخطر الانهيار والتلاشي، فهب العلماء الملتزمون لعلاج هذه المعضلة، وتولّى آيات الله العظام السيد محمد حجت، والسيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخوانساري (رضوان الله عليهم) مهمة الإشراف على حوزة قم لمدة ثمانية أعوام. أبان هذه المدة، ولاسيما بعد سقوط رضا خان، توفرت الظروف اللازمة لقيام مرجعية عظمى في حوزة قم، وكان آية الله العظمى البروجردي شخصية علمية مميزة بوسعها تمثيل البديل المناسب للمرحوم الحائري من أجل الحفاظ على كيان الحوزة. لذلك توبع هذا الاقتراح بكل جد وإسراع من قبل تلاميذ آية الله الحائري ومنهم الإمام الخميني الذي بذل جهوداً حثيثة في دعوة آية الله البروجردي للانتقال إلى قم وتقبل المسؤولية الخطيرة لزعامة الحوزة. كان الإمام الخميني يراقب الظروف السياسية للمجتمع والوضع القائم في الحوزات بكل دقة، ويزيد من معارفه ومعلوماته السياسية عن طريق القراءة المتواصلة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف التي كانت تصدر آنذاك، مضافاً إلى زياراته لطهران وحضوره عند شخصيات كبيرة نظير أية الله المدرس. وفي ضوء معارفه السياسية هذه كان يدرك إدراكاً عميقاً أن كوة الأمل الوحيدة للتحرر والخلاص من ظروف الذل التي هيمنت بعد إخفاق الثورة الدستورية وفرض رضا خان حاكماً على إيران، هي يقظة الحوزات العلمية وضمان حياتها والصلة الروحية للناس برجال الدين. ولأجل متابعة أهدافه القيمة هذه أعد الإمام الخميني في سنة 1328ش (1949م) مشروع إصلاح بنية الحوزة العلمية بالتعاون مع آية الله مرتضى الحائري، واقترح هذا المشروع على آية الله البروجردي. بادر تلاميذ الإمام وطلاب الحوزة الواعون للترحيب بهذا المشروع ودعمه. وكان النظام الحاكم قد أخطأ في حساباته، ففي السادس عشر من مهر 1341ش (8/10/1962م) صادقت حكومة أمير أسد الله علم على لائحة «اتحادات الولايات والإمارات» التي أُريد لها أن تغيّر بعض الضوابط السابقة الخاصة بالمقترعين والمرشحين ومنها أن يكونوا مسلمين، وأن يُقسموا بالقرآن، وأن يكونوا ذكوراً. كان منح حق الانتخاب للمرأة غطاءً لإخفاء أهداف أخرى. وإلغاء أو تغيير الشرطين الأول والثاني كان يرمي تحديداً لتكريس وجود العناصر البهائية في مرافق البلاد المهمة. دعم الشاه للكيان الصهيوني عبر تطوير العلاقات بين إيران وإسرائيل كان الشرط اللازم لدعم أمريكا للشاه، وتغلغل أتباع الفرقة البهائية المرتبطة بالاستعمار في السلطات الإيرانية الثلاث من شأنه تحقيق هذا الشرط. بمجرد أن ذاع خبر المصادقة على هذه اللائحة اجتمع الإمام الخميني للتشاور مع كبار علماء قم وطهران ثم أعلن معارضته الأكيدة والشاملة لها. وقد كان دور الإمام في تسليط الضوء على الأهداف الحقيقية لنظام الشاه والتذكير بالرسالة الخطيرة لعلماء الدين والحوزات العلمية مؤثراً وفاعلاً جداً في تلك الظروف. البرقيات ورسائل الاعتراض المفتوحة التي بعثها العلماء للشاه وأسد الله علم أثارت تياراً هائلاً من الدعم لتحركات الإمام الخميني بين مختلف شرائح الشعب الإيراني. كانت البرقيات التي بعثها الإمام الخميني للشاه ورئيس الوزراء شديدة اللهجة وتشتمل على كثير من التحذير. جاء في أحد هذه البرقيات: «إنني أنصحك مرة أخرى بالعودة لطاعة الله والخضوع للدستور والخوف من العواقب الوخيمة للتنكر للقرآن وأحكام علماء الأمة وزعماء المسلمين والحياد عن الدستور، فلا تلقِ بالبلاد في الخطر متعمداً ومن دون سبب، وإلا فلن يتجنب علماء الإسلام إبداء آرائهم فيك».
وهكذا كانت تجربة اتحادات الولايات والإمارات تجربة انتصار قيمة للشعب الإيراني، خصوصاً لأنه عرف من خلالها سمات شخصية جديرة بقيادة الأمة الإسلامية من كل النواحي. رغم هزيمة الشاه في قضية الاتحادات، إلا أن ضغوط أمريكا لتمرير إصلاحاتها لم تنقطع. لذلك أذاع الشاه في شهر دي 1341ش (بداية شتاء 1963م) مبادئه الإصلاحية الستة وأعلن الاستفتاء العام عليها. فعاد الإمام الخميني لمناشدة مراجع الدين وعلماء الأمة في قم للاجتماع والتفكير في حل. وباقتراح من الإمام الخميني تمّت مقاطعة الاحتفال بعيد النيروز التراثي في بداية العام الشمسي 1342ش (آذار 1963م) اعتراضاً على خطوات النظام هذه. في البيان الذي أصدره الإمام وصف الثورة البيضاء التي أطلقها الشاه بأنها ثورة سوداء، وفضح تماشي الشاه مع الأهداف الأمريكية والإسرائيلية. من جهة، كان الشاه قد طمأن الساسة في واشنطن بشأن استعداد المجتمع الإيراني لتطبيق الإصلاحات الأمريكية، وأطلق على هذه الإصلاحات اسم (الثورة البيضاء)، لذا شق عليه كثيراً أن يعارضه علماء الدين. في تجمع جماهيري كبير وصف الإمام الخميني وبكل شجاعة الشاه بأنه الأداة الرئيسية للجرائم التي ترتكب في البلاد وأنه حليف لإسرائيل ودعا الجماهير إلى الثورة. وفي كلمته يوم 12 فروردين 1342ش (1/4/1963م) انتقد بشدة صمت علماء قم والنجف وسائر البلاد الإسلامية حيال جرائم النظام الجديدة وقال: «إن الصمت اليوم مواكبةٌ للنظام المتجبّر». وفي اليوم التالي أي 13 فروردين 1342ش (2/4/1963م) أصدر بيانه المعروف تحت عنوان «محبة الشاة معناها النهب والغارة». وهنا، يجب البحث عن سر التأثير المذهل لنداءات الإمام وكلامه في نفوس مخاطبيه والذي يصل حدود التضحية والفداء بأرواحهم، يجب البحث عنه في أصالة تفكيره، وصلابة رأيه، وصدقه الخالص مع الشعب.
ابتدأ عام 1342ش بمقاطعة احتفالات عيد النيروز واصطبغ بدماء المظلومين في المدرسة الفيضية. كان الشاه مصراً على تطبيق الإصلاحات التي تريدها أمريكا، بينما بقي الإمام ثابتاً على توعية الشعب واستنهاضه ضد التدخل الأمريكي وخيانات الشاه. في 14 فروردين 1342ش (3/4/1963م) بعث آية الله العظمى الحكيم من النجف برقية للعلماء والمراجع في إيران طالباً منهم الانتقال بشكل جماعي إلى النجف. أطلق هذا الاقتراح حفاظاً على أرواح العلماء وكيان الحوزات، لكن الإمام الخميني بعث جواب برقية آية الله العظمى الحكيم دون أي اكتراث لهذه التهديدات مؤكداً فيه أن الهجرة الجماعية للعلماء وإخلاء الحوزة العلمية في قم ليس من المصلحة إطلاقاً. وفي 12/2/1342ش (2/5/1963م) أصدر الإمام الخميني بياناً بمناسبة أربعينية فاجعة المدرسة الفيضية مشدداً فيه على ضرورة مواكبة علماء الدين والشعب الإيراني لرؤساء البلدان الإسلامية والعربية في مواجهة إسرائيل الغاصبة، وإدانة المعاهدات بين الشاه وإسرائيل.
[color=red][color=red][size=24