نظرت إلى رجل ترتجف له كهوف الأرض قاطبة
“وليم كاروشت” قانوني فرنسي له شهرة عالمية في الدفاع عن السجناء السياسيين. زار إيران وحضر احدى اللقاءات مع الإمام الخميني في حسينية “جمران”، وكتب على اثر ذلك المقال الذي نشر في مجلة “VIERS MAGAZINE ELSE” الهولندية في 27 ابريل1985:
الطيران من باريس إلى طهران استغرق (6) ساعات. الطائرة مملوءة بالمسافرين. كثير من النساء وبكافة الأعمار كلهن محجبات ما عدا النزر القليل. الوضع على متن الطائرة اعتيادي وليس مكهرب. كثير من الأمتعة تباع وكثير من بضائع السوق الحرة ـ ما عدا الكحول طبعاً ـ، اللغة الانجليزية هي لغة المضيفات وطاقم بالانجليزية والفارسية فقط ولا يوجد حرف واحد بالفرنسية، فرنسيّتي يجاب عليها بالانجليزية.
وصلنا طهران عند الساعة الرابعة صباحاً، وحللت في فندق انتركونتيننتال. والآن غير اسمه إلى “لاله انتركونتيننتال” غرفة 709، مع تلفزيون وحانة فارغة.
زياراتي كانت متكررة، وفي وقت الشاه كنت احلّ ضيفاً على إيران، وإيران هي محطة مؤقتة بالنسبة لي، وذلك بسبب عملي كقانوني وكمدافع عن السجناء السياسيين، وفي تلك الفترة كانت حول الحزب الشيوعي “تودة”، وكانوا من السجناء السياسيين، الشيوعية قد اجتثت من جذورها ولكن لا زالت خطرة، وفي نفس الوقت كانت تعمل ـ آنذاك ـ الولائم لرؤساء الدول الغربية في مخيم شيت الذهبي.
حراس الثورة منتشرون في كل طابق من طوابق الفندق كلهم ملتحين أو لم يحلقوا ذقونهم من عدة أيام، وفي يوم الجمعة كنت حاضراً في اجتماع للصلاة في باحة الجامعة، حضره ما بين (50 إلى 60) الفاً من الأتباع المخلصين، (وفي نفس الباحة، وبعد اسبوع، شهدت عملية تفجير في وسط الحشد الغفير من المصلين، عشرة قتلى ومائة جريح، إمام الجمعة كان رئيس الجمهورية الإسلامية، آية اللّه السيد علي الخامنئي وانا كنت على بعد متر واحد منه)، وبعد ساعتين ـ أي بعد انتهاء الصلاة ـ تفرّقت الحشود البشرية وهم يهتفون وقبضات ايديهم مرفوعة عالياً، اكثر الحشود كانت تزمجر بشعارات هادرة، وعلامات الغضب بادية على وجوههم.
لقد انتابني الخوف من جراء ذلك المشهد، وماذا يريدون؟ ماذا يقولون؟ آية اللّه الخلخالي طمأنني وقال: يبغون منك وعند رجوعك للوطن ان تشهد وتقول ان شعب طهران بودّه وباخلاص يريد ان يحافظ على جمهوريته الإسلامية.
زيارة الإمام الأحد صباحاً، الساعة السابعة موعد الزيارة إلى بيت الإمام الخميني.
موكب مدهش من سيارات المرسيدس محاطة بحراس الثورة، وكذلك سيارتي محاطة ومن جميع الجهات.
سرنا ولمدة ساعة وبسرعة 120 كلم في الساعة، غادرنا مركز العاصمة طهران من الناحية الشمالية وباتجاه قرية حسينية جمران، حيث لم يبارحها الخميني منذ فترة ليست بالقصيرة، فوقفنا على مرتفع، ومرة اخرى مئات من حرس الثورة وتتراوح اعمارهم ما بين (20 ـ30) سنة، ثم سرنا راجلين، ولمدة عشرة دقائق، وقد منحوني هوية للدخول. دخلنا في زقاق ضيق على طرفيه بيوت قديمة، في اول العوائق، لا يسمح لي ان أحمل آلة تصوير أو فيلم، وعندما صعدنا (100متر) في ذلك الزقاق وإذا بحاجز آخر امامنا عبارة عن سياج حديدي، حراس الثورة لم يتحركوا من جانبي ولا حتى سنتيمتر واحد، كل وجه جديد يقابلني يحيّيني، وانا ارد التحية بالمثل وبواسطة رأسي، بعضهم يبتسم لي، والبعض الآخر ينظر لي باندهاش، والسبب هو ان الإمام نادراً ما يستقبل اجنبي من دولة رأسمالية، كفرنسا فهي التي تموّن العراق ـ علناً ـ بأحدث ما تنتج مصانعها من الاسلحة. نحن نسير صعوداً إلى الأعلى، إلى ان وصلنا إلى شارع موحل، البيوت عبارة عن اكواخ. وبعد العائق أو الحاجز الثالث، وضعت قطعة من القماش الخام على الارض وهي تشبه السجادة، خلعت حذائي، وهنا يبدأ عالم الخميني، وبعد 20 متر سوف نضع اقدامنا في داخل البيت، انه بيت متواضع اكثر من البيوت السابقة، عبارة عن بناية من طابقين لم تكتمل لحد الآن. الخميني الذي بوسعه ان يسكن في اضخم القصور، ولكنه اختار اكثر البيوت بؤساً، وعندما دخلت وجدت نفسي امام ساحة من 100 متر مربع. الأرض طينية مغطاة بسجاد خشن، الجدران عبارة عن طابوق احمر وهي عارية من كل شيء. القاعة عالية جداً، وفي احد اركانها توجد غرفة انتظار، من كل الجوانب تشاهد اسلاك كهربائية مقطعة ومعلقة، هذا هو مسجد الإمام. ان مساجد اصفهان الرائعة بعيدة جداً عن طهران، وفي احد الجدران هيكل حديدي وفوقه شرفة متواضعة، وفي احد جوانبها يوجد كرسي مغطى بوشاح ابيض، وفي الجانب الآخر توجد باب خضراء من خشب، ومن خلالها سوف يدخل الخميني، ومن خلال تلك الشرفة المتواضعة أخذ الخميني، وخلال العامين الماضيين يصب جام غضبه على اعدائه.
انتظرت، ولدقائق طويلة، وإذا بعيني في النهاية تسقط على ذلك الرجل “الذي ترتجف له كهوف الارض قاطبة”. أول الداخلين: علي خامنئي رئيس الجمهورية الإسلامية يتبعه رئيس البرلمان حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني.
وتنتظر مرة أخرى، الباب أخذت تنفتح ببطئ، فظهر اثنان من المعممين واحد منهم هو ابن الإمام، وهذا هو الإمام الخميني بنفسه، ماشياً بخطوات بطيئة ولكنها متزنة وثابتة، متجهاً نحو الكرسي المخصص له ثم جلس، هذا هو كل شيء، ومن خلال جلوسه القى نظرة خاطفة باتجاه ضيوفه الأجانب، وبدأ وبصوت واضح وقوي بالموعظة والتي استمرت ساعة واحدة، ومن دون ان يبدو على كلامه التردد، وجهه ينبعث منه النور ومن تحت تلك العمامة السوداء، وعلى اكتافه عباءة بنية، جسده باق من دون حركة، فقط الرأس يتحرك ولبعض المرات يميناً ويساراً، الابتسامة مفقودة والوجه صاف كالشمع، ومن دون ان تظهر عليه التجاعيد.
لكن ما معنى تلك النظرات الثاقبة! نار تخرج من تلك العينين. هو لا يدعك تحس بما يجيش في قرارة نفسه هو دائماً “ابن الإسلام”، وهو الذي لم تتغير منزلته وهيبته، هو يعيش لا ليمتاز على الآخرين بل يعيش وهو يخشى اللّه، لا يوجد عنده مكان للريبة، هو يصهر الحقيقة مع أفكاره الخاصة، له قدسية الهيّة مهيبة. الغرفة قد امتلأت بالمعممين والعلماء، والذي ـ على جانبي ـ أخذ يدوّن خطبة الإمام وحتى لو اوعز بتنفيذ الأحكام المتشددة، يبقى على سكينته المهيبة، جالساً من دون أيّ حركة انفعالية، فقط يداه، التي تكون في حالة تقاطع دائم حول ركبتيه وتتحركان بين لحظة وأخرى وببطئ.
“جمهوريتنا ينعتها الغرب بالعُتمة والظلام، ونفس هذه الأكاذيب تصل إلى مسمع شعوبنا وعلمائنا، الدعاية تشوّه وبالقصد كل ما يحدث عندنا”.
هذه اول الكلمات التي نطق بها الإمام، ويضيف اليها، “انتم شاهدتم ماذا حدث في إيران عندما قامت الثورة، انا سوف أكون ممتنّاً إذا قابلتم الناس الذين على صلة بكم وتخبروهم، اخبروهم الحقيقة بكل بساطتها وصدقها، لا اكثر ولا اقل من الحقيقة، انا لا التمس منكم ان تعملوا دعاية إلى جمهوريتنا الإسلامية. كل واحد في الخارج، من الذين يعرفون إيران جيداً ويعرفون الجمهورية الإسلامية عندنا يهاجمونها ويلفقون الأكاذيب والأباطيل ضدها وينطقون بكلمات مهينة، هم في الحقيقة يمارسون ذلك ضد الإسلام ونحن يهمنا فقط الإسلام، هم خائفون من الإسلام، اذا قالوا اننا ضد إيران فهم كاذبون، يتخذون إيران ذريعة لهم فقط، الإسلام هو هدفهم الوحيد، إذا اصحبت جمهوريتنا ديمقراطية بدلاً من إسلامية، فسوف لا تسمع احد يتفوه علينا بكلمة.
يجب ان نجتث الأنانية وحب الذات، التي وجدت مع نشوء هذا العالم، الأنانية وحب الذات حطمت كل شيء، الإنسانية، المجتمع، الحكومة والدولة، الأنانية وحب الذات هي ارث خلّفه الشيطان. ولهذا السبب من الواجب علينا ان ننفي هذا الشيطان من انفس شعوبنا”.
حوالي (10) دقائق كاملة بلور الخميني هذا الموضوع مع التأكيد على القرآن الكريم وأحاديث الرسول (ص) والمبادئ هي كل شيء بالنسبة له.
بعد ذلك أخذ الخميني يؤكد علينا، الخميني يرغب منّا ان نذهب إلى الجبهة، الأجانب يجب ان يسرجوا النور لكي يشاهدوا بأم اعينهم ما هو حجم المأساة التي اوجدتها الصواريخ العراقية في تلك المناطق، مناطق مُحيت عن وجه البسيطة، اموات، مدن ممزقة. يجب ان يذهب الأجانب إلى معسكرات الاسرى العراقيين ويشاهدون طيب المعاملة التي يعامل بها هؤلاء الاسرى، “انظروا حولكم واحكموا وقولوا الحقيقة عندما ترجعوا إلى بلدانكم. ارجو منكم ان تقولوا الحقيقة لا اكثر ولا اقل، وبهذه الطريقة سوف تفتحون أعين الذين لم يتفهّمونا لحد الآن”.
الخميني انهى تلك المناقشة مؤكداً على معاناة الشعوب الإيرانية، “سنين وهذه الشعوب تكافح ضد الملكية التي عزلته عن الإسلام”.
“الشعب الإيراني والعلماء يكافحون ضد الظلم وبلا هوادة، فمن الذي يؤمن بالعمل الصالح ويعمل به فسوف ينجح بكل خطوة يقدم عليها”.
“الشعب الإيراني كله يؤمن بالشهادة وبها يحصل على النصر، وإلى يومنا هذا يكافح في سبيل اللّه ودفاعاً عن وطنه، جنودنا ينذرون أرواحهم في سبيل اللّه، وهو الذي بيده السماوات والأرض، العراق هو الذي فرض على الشعب الإيراني هذه الحرب، القرآن يقول ان جميع الناس على هذه الارض هم أخوان، والقرآن لا يأمرنا بالاقتتال، ولكن إذا كانت هناك حرب عادلة، فهي حربنا ضد الكفار”.
“يجب ان يكون التسامح بين المؤمنين والقسوة ضد من لا يؤمنون، الفساد، اللصوص، المجرمون، والذين يهاجمون إيران هم مجرمون ويجب ان يفنون، يتاجرون باسم الحقد والغضب، ويتلقون العون من الشياطين الكبار الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، انظروا إلى المأساة في هذا العالم، وانظروا ماذا يجري في اثيوبيا، الأطفال يموتون جوعاً، وكل هذه المجاعة تحصل وبدلاً من ان يطعموا هؤلاء الجياع، يعمل الشياطين الكبار مدافع لكي يدمروا بها هذا العالم المحروم، لماذا يضربون كل محاولات الاخاء؟”
وهنا يختم الخميني خطبته: ويقول “ربنا افتح قلوبنا، ربنا اعطنا الصحة، والتقدم والنصر، ربنا اغني الفقراء والعن الشياطين الكبار، ربنا احفظ لنا ديننا الحنيف”.
الخطبة انتهت، وآية اللّه أخذ يرد التحية والسلام بيده ورأسه وغادر القاعة، الباب فتحت واغلقت وغاب الإمام خلفها.