[size=18]أمين عام حزب الله يرتفع شهيداً على طريق المقاومة والتحرير…
[color=red]مولد السيد الشهيد وطفولته
ولد سماحة السيد الشهيد عام 1952 في بلدة مستضعفة، استمدت تسميتها من مقام نبي الله شيث، في بيت من بيوت الإيمان والولاية من أبوين هاشميين موسويين.
ترعرع ومنذ نعومة أظفاره على حُسن الخلق والتهذيب وطُبع في قلبه حب أهل البيت(ع)، في منزل ارتبط ارتباطاً وثيقاً بأهل البيت، عبر المجالس العاشورائية التي كانت تقام فيه سنوياً، وشبّ مجاوراً لمسجد الإمام الحسين(ع) في منطقة الشياح وبمقام نبي الله شيث(ع) في بلدته.
تميّز السيد الشهيد بوعيه المُبكّر وبنضوجه المُلفت… وقد صاحب ذلك اهتمام زائد من أهل السيد به وخاصة من قبل والدته التي استبشرت به خيراً أثناء الحمل به لرؤية رأتها.
كان السيد محباً للعلم وللدراسة، وكان يملك من الحماسة ما يميزه عن غيره، ومن الفراسة التي قلّما وُجدت في أحدٍ من أقرانه، وعُرف أيضاً ومنذ طفولته بالجرأة والشجاعة وحبّه لفعل الخير وحنوّه على الفقراء والمستضعفين.
ربيع المقاومة
ما إن بلغ السيد(ره) الربيع من العمر، حتى كانت نكسة حزيران 1967، التي شكلت هزّة، فجرّت كل عواطف السيد الشهيد مما دفعه إلى ترك المدرسة مبكراً والالتحاق بصفوف الفدائيين، للمساهمة في تحرير فلسطين. فالتحق وهو فتىً يافع لم يتجاوز السادسة عشر من العمر، بمعسكرات الفدائيين للتدرب معرضاً عن كل مباهج الصبا وزهو الفتوة ومراهقة الشبّان.
ولم يطل به المقام في المعسكر حتى عاد مصاباً في إحدى قدميه، وهذا ما منعه آنذاك من الذهاب في عملية فدائية كانت تؤرقه الرغبة الشديدة للمشاركة فيها.
لقد كان تحرير فلسطين السليبة، هدفاً وضعه نصب عينيه منذ صباه، وهو يدرك أنه سيكلفه الكثير الكثير وكان كل همّه أن يُهرق دمه على أرض فلسطين فكان استشهاده على طريقها الطويل…
نحو الحوزة الدينية
لقد شكلت تجربته مع المقاومة الفلسطينية عام 1967، محطة بارزة في حياته لتصويب المسار الحقيقي نحو فلسطين، فكانت مدرسة أهل البيت(ع) هي خيار السيد لمسيرة الإعداد لتحرير فلسطين، ثم كان التحاقه بــ "معهد الدراسات الإسلامية" في مدينة صور عام 1968 على أثر لقاء جمعه مع الإمام السيد موسى الصدر في إحدى بيوتات المستضعفين. حيث تابع هناك على يد السيد موسى الصدر دراسته لأكثر من سنة ونصف، وقد أعجب السيد الصدر به لذكائه ونباهته وحبه للعلم، وتوسم به خيراً، فكان أن نصحه بالانتقال إلى النجف الأشرف، وزوّده برسالة توصية إلى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده).
في النجف الأشرف
في النجف الأشرف، تابع السيد الشهيد(ره) دراسته العلمية على أيدي المراجع الأعلام، وترّكزت دراسته بشكل أساسي على الشهيد السيد الصدر(قده) حيث اغترف من بحر علمه، وتزوّد من نبع روحه الفيّاض، علماً وأخلاقاً وورعاً وجهاداً غذّى ثوريته.
في النجف، اشتهر السيد بولعه بالتحصيل العلمي وتثمينه للوقت، بحيث تمكّن من دراسة مرحلتي "المقدمات" و"السطوح" في العلوم الدينية خلال خمس سنوات فقط، وهذه مدة قياسية إذا ما عرفنا أنها تأخذ من الطلاب العاديين نحو خمسة عشرة سنة.
لقد أعطى السيد الشهيد كل وقته للتحصيل العلمي، فأحب العلم والعلماء، لم يعرف جسده الطاهر الراحة ولم يأخذ يوماً حقه في النوم والاستراحة، حتى أنه كان إذا ما غفا يغفو والكتاب على صدره.
كان يومه الدراسي، في الصيف والشتاء، في الحر الشديد والبرد والصقيع، يبدأ من مطلع الفجر بقرآنه المشهود و"عهده" مروراً بــ"الفجريات"، وهي عبارة عن دروس في تفسير القرآن الكريم كان يتدارسها مع بعض إخوانه، تارة يدرسون عليه وطوراً يدرس عليهم، فكان استاذاً لهم وكانوا أساتذة له.
لقد كان له من الجلد والصبر ما يعجز عنه الصبر نفسه، حيث أنّه لم يبخل على الدراسة لا بالجهد ولا بالوقت، فكان يقطع مع شروق الشمس، كل يوم مسافة (4 كلم) سيراً على الأقدام لحضور الدروس عند المرحوم الشهيد السيد عبد المجيد الحكيم(ره). وأما أيام العطلة الأسبوعية (الخميس والجمعة) وأيام الأعياد والإجازة فلم تكن لتعرف مكاناً لها في روزنامة حياته، وما كان للاستخفاف بالوقت عنده مكاناً، فقد كانت كل أيام حياته زاخرة بالجهد والتحصيل والعطاء.
إلى جانب حياته العلمية المميزة، عُرف السيد الشهيد بدماثة أخلاقه ورفعتها، وبتربية نفسه وتهذيبها، وعُرف باحترامه المميّز للآخرين وبتواضعه وزهده، حتى أنه لم يتقاض طوال سني دراسته النجفية راتباً أو مُخصصاً، فقد كان يعيش ليومه، شعاره وفعله الزُهد والتواضع من غير تصنّع ولا تكلّف.
وعُرف السيد خلال إقامته في النجف بوفائه لجدّه أمير المؤمنين(ع)، عبر تعاهده زيارته باستمرار، كما أنه لم ينقطع عن زيارة جده الإمام الحسين(ع)، ولم يثنه بعد السفر عن ذلك، فكان يمشي مسافة 125كلم سيراً على الأقدام شوقاً لزيارة أبي الأحرار(ع).
جمعته في النجف علاقة ود ومحبة بالشهيد السعيد السيد الصدر(قده)، أستاذه ومربّيه وله معه حكايات وقصص تطول، تنم جميعها عن المودة العميقة التي كان يكنّها الشهيد الصدر(قده) للسيد الشهيد(ره).
زواجه المبارك والعائلة المثالية
عام 1973، تزوج السيد عباس من ابنة عمه سهام، الشابة الصغيرة، وسافرا معاً إلى النجف.. فكان أن التقى الفعل والعطاء فكوّنا نموذجاً ثنائياً قلَّ نظيره.
وتتلمذت السيدة أم ياسر على يد السيد أبي ياسر، الزوج والمعلم، فكانت خير تلميذ لخير معلم، وكان السيّد(ره) حريصاً على أن يودع فيها روحه وكل أفكاره وهو المميز في الروح والمميز في الفكر.
واستطاعا أن يبنيا معاً جواً أسرياً مفعماً بالإيمان والتقوى، قائماً على الاحترام والمودة والانسجام قلّ أن نجد مثيلاً له، وقد منّ الله على هذا البيت المبارك بأربعة صبيان وفتاتين.
وقد أُبتليا بطفل مريض، يحتاج وحده إلى أمٍ تتفرّغ له وحده، وعلى الرغم من ذلك فقد أظهرت السيدة الشهيدة أم ياسر الصبر الجميل وتحملت مسؤولية البيت والعائلة والأطفال والطفل المريض، وفوق ذلك كله واجباتها تجاه عشرات الضيوف المتوافدين يومياً على السيد عباس(ره)، ولم يعرف التذمر ولا التأفف يوماً طريقه إليهما، وإنما كانت البسمة وحدها من نصيب الجميع.
إلى ذلك، انطلقت السيدة أم ياسر وبدعم ومؤازرة من السيد الشهيد في عملها الرسالي التبليغي خارج المنزل ما بين الحسينيات والمراكز والبيوت، ثم في حوزة السيدة الزهراء (ع) التي كان للشهيدة المجاهدة فيها دور أساسي وفعال منذ تأسيسها… وفوق ذلك كله كانت رفيقة السيد الدائمة في حلّه وترحاله وجهاده.
عودة إلى لبنان
بعد تمضية نحو تسعة أعوام في النجف الأشرف، وأمام ملاحقة جلاوزة النظام العراقي، وبعد سلسلة مداهمات لبيته في النجف، وبعد ارتفاع وتيرة الاعتقالات في أوساط علماء وطلاب الحوزة العلمية، وبناءً على طلب من السيد محمد باقر الصدر(قده)، كانت عودة السيد عباس إلى لبنان عام 1978 في أيام عاشوراء لذلك العام.
فجاء إلى لبنان يحمل المسؤولية على كتفيه، فأسس مدرسة (حوزة) الإمام المنتظر(عج) في بعلبك، حتى يحمل النجف معه مدرسة تستطيع أن تعوّض على الكثيرين الذين لم يعودوا يستطيعون الذهاب إلى النجف بفعل الاضطهاد والتشريد، لقد كان همّ السيد الشهيد أن يكون الإنسان المبلِّغ وأن يكون حركةً من أجل المستضعفين.
لقد شكلت الحوزة التي كانت في بدايتها عبارة عن مَيْتَم استأجره السيد، مَعلماً أضاء سماء العلم والمعرفة في لبنان وخرّجت كوكبة من العلماء العاملين المجاهدين.
لقد استطاع السيد بجهاده وإخلاصه ومثابرته أن يجعل الحوزة من الحوزات النموذجية، وتمكّن بفعل حركيته وديناميته وروحه الثورية المتوثّبة أن يجعل الحوزة منطلق العمل الإسلامي والتبليغي في منطقة البقاع وحتى في المناطق الأخرى وخاصة الجنوب.
لقد تمكن السيد من إيجاد حركة تبليغ شملت معظم القرى والمناطق حتى النائية منها في جرود الهرمل، أو حتى في سهل عكّار، حتى تلك القرى التي لم تعرف عالماً دينياً أو مُبلغاً من قبل، وصلها السيد الشهيد(ره) مع طلاّبه في مواسم التبليغ (في شهري رمضان ومحرم).
لقد كان سماحته ينتقل من قرية إلى أخرى، يؤم صلاة هنا ويحيي مناسبة هناك، يلتقي بالناس، يجتمع بهم، يصغي إلى همومهم، يحل مشاكلهم، يوجههم .. كان حركة لا تهدأ وعزيمةً لا تخمد، لم يعرف الكلل ولا الملل … لقد عاش الرسالة في وجدانه فكان إنسان الإسلام، وعاشت المسؤولية في وعيه فكان إنسان الحركة، وعاشت الأمة في كل كيانه فكان رجل الأمة…
مدرسة السيد عبّاس
كثير من أبناء جيل الشباب وغيرهم من أهلنا في لبنان، لم يعرفوا الإمام الخميني(قده) شخصياً، ولكن من عرف السيد عباس(ره) لابد أنه أدرك عبره معرفة الإمام.
لقد كان(ره) مدرسة متميزة كأنها صورة طبق الأصل عن مدرسة الإمام الخميني(قده) في الإيمان والورع والتقوى والأخلاق والتواضع والإخلاص والجهاد، يستحيل أن يرى المرء شخصاً عرف السيد أو عاشره إلا ويجد أنه ترك في شخصيته شيئاً من بصماته.
لقد عمل السيد عباس (ره) وفي موازاة العمل الجماهيري ــ العبادي الاجتماعي ــ السياسي، في خط البناء الفكري ــ المعنوي للكادرات الشبابية المؤمنة الفتية، التي كان يتعاهدها عبر حلقات منتظمة قامت في العديد من القرى والدساكر وفي بعلبك نفسها، وساهم مساهمة فعّالة في مدارس ودورات الكوادر، لقد أعطى الشباب المؤمن كل وقته وهمّه، وتعاهد تربيتهم ورعايتهم كما يتعاهد الأب رعاية أبنائه وتربيتهم، وغمرهم بعطفه الأبوي ــ رغم الفارق البسيط في السن ــ وزوّدهم بالمعارف والتعاليم الإسلامية، وخلّقهم بخلق الأنبياء والأئمة(ع)، بذل لهم غاية الجُهد، وأعطاهم غاية العطاء، ليصنع منهم فئة مؤمنة طليعية تكون النواة الأساسية لعمل إسلامي واعٍ، منتج وفاعل. وزرع(ره) غرسةً أتت أكلها شباباً، مؤمناً مجاهداً، استشهد منهم من استشهد وينتظر منهم من ينتظر، كلّ في مضمار جهاده، فمنهم علماء الدين، ومنهم الأطباء ومنهم المهندسون، ومنهم العاملون ومنهم الكوادر المؤمنة المجاهدة العاملة، ومنهم المرابطون في سبيل الله.
تحت خيمة الإمام
ما كادت الثورة الإسلامية تنتصر بقيادة الإمام الخميني(قده) في شباط 1979، حتى كان السيد عباس(ره) من أوائل الداعين لها والمنفتحين عليها والسائرين في ركب قائدها، وقد بلغ تمسّكه بها وبقائدها حد الذوبان، فلقد أذاب نفسه في الإمام الخميني(قده) وأذاب حركته في الثورة الإسلامية..
لقد رأى السيد الشهيد(ره) في شخصية الإمام الخميني(قده) "أنموذجاً مصغراً لرسول الله(ص) وعيسى(ع) وعلي والحسن والحسين(ع)".
الإمام الخميني (قده) كان بالنسبة إلى السيد عباس(ره) "هو العنوان والمعنى لكل وجودنا، وهو الصاحب والأنيس لنا في كل رحلتنا وغربتنا، وهو الخيمة التي نتفيّأ تحت ظلالها".
لقد ملأ الإمام الخميني(قده) كل وجود السيد عباس وحركته، ونفخ فيه من روحه وقوته الروح والقوة …
لقد ملأ عشق الثورة الإسلامية وقائدها الإمام الخميني(قده) كل أركان السيد عباس وجوارحه، فراح يبث في نفوس الشباب والناس حب الإمام والثورة وأرضعهم كالأم الحنون الولاء لهم والطاعة، ونفخ في روحهم من روح الإمام والثورة…
لقد كان الوفاء والإخلاص للإمام ولخط ولاية الفقيه ميزتان امتاز بهما سماحته واختص بهما دون غيره
لقد عشق الإمام حدّاً صار يرى الدنيا من خلال عينيه ويرى كل شيء من خلال طلعته البهيّة، لقد جسّد الإمام الخميني لسماحته "الأمل الكبير والحلم الكبير" حلم الأنبياء والأئمة(ع).
وفي المقابل كان الإمام الخميني(قده) يحمل في قلبه الحب الكبير لهذا السيد الذي اختصه، ولأكثر من مرة، بلقاءات منفردة كانت تمتد لأكثر من ثلاث ساعات حتى أنه كان يستبقيه ضيفاً عزيزاً على مائدته الخاصة، التي قال عنها السيد الشهيد أنها "أطيب وجبة طعام تناولتها في حياته".
[color=red]