من مسقط رأسه في جبشيت، فبيروت، مروراً بالنجف الأشرف، فطهران، وانتهاءً بشهادته المدّوية، ظل الشيخ راغب (رضوان الله عليه) ملجأ المؤمنين، وحضن المقاومين.
حياته القصيرة، تروي حكاية العاملي الذي لا يهدأ، والرسالي الذي لا يلين.
حياته كشهادته، صاخبة هادرة تملأ أسماع الزمان والمكان، وتختصر حياة الإنسان المتمرد، الطامح دوماً نحو الحرية والعدالة والكرامة..
فمن هو هذا الشيخ الشهيد؟!وكيف عاش حياته؟! هذا ما ستلخصه لنا، هذه الصفحات القليلة..
مولده
ولد الشهيد السعيد الشيخ راغب حرب، في صيف حافل بالعمل والنشاط من عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين للميلاد، من أبوين كادحين، عاشا فوق ثرى جبل عامل، وعلى أرضه الطاهرة، وراحا يزرعانه خيراً وبركة ويسقيانه بعرق الجبين..
تميّز الأبوان بتمسك قويّ بمبادئ الدين الحنيف، والتزام أصيل بتعاليمه السمحاء..
ترعرع ونما في كنف هذه الأسرة الطيبة، فتنسّم في أجوائها عطر الرسالة، وتنشق عبير الإيمان، فنبتت في أعماقه أروع الخصال وأجمل السجايا".
طفولته
لم يكن عهد الطفولة الطري، ليشده إلى اللهو والعبث كسائر أترابه الصغار، الذين استرسلوا في لعبهم ولهوهم، بل كان يأنف ومنذ نعومة أظفاره، الحياة اللاهية العابثة، وكأنه كان يفكر فيما ينتظره في المستقبل من مهام كبيرة ودور عظيم..
في السابعة من عمره، دخل المدرسة الرسمية في بلدته جبشيت، ليتلقى فيها علومه الأولى، ثم توجه بعدها إلى منطقة النبطية لمتابعة المرحلة التعليمية المتوسطة، غير أنه لم يجد في تلك البرامج التعليمية ما يلبي طموحه، وينسجم وروحه المتوثبة، فترك المدرسة وفي أعماقه شوق كبير إلى طلب العلوم الدينية التي كانت حلماً يراود مخيلته، وأمنية عزيزة يسعى إلى تحقيقها..
الانتقال إلى بيروت
في أوائل العام 1969 غادر الشيخ بلدته إلى بيروت، مستوطناً فيها لطلب العلم، وهناك أخذت أحلام الصبا، والآمال والأماني التي كان يضج بها قلبه، تتحقق شيئاً فشيئاً، إنه الآن قريب مع من أحبّ من العلماء، يتعلّم منهم، ويتربى في ظلالهم، وهو قريب مع من أحبّ من المؤمنين، يشاركهم مجالس الحوار، ويحيي معهم شتى الاحتفالات والمناسبات التي ألهبت حماسه وزادت من اهتماماته، والتي ساهمت في تفتح آفاقه، وتوسيع مداركه، وهو بعد سنة عاشها في مسيرة العمل الإسلامي، كان يتطلع إلى النجف الأشرف بشوق وشغف، وحنين كبير إلى حوزاتها العلمية الرحبة الآفاق.. المزدحمة بألوان العلم والنشاط.
في النجف الأشرف
وهناك، عاش في مدارسها، لينهل من معينها، ويرتشف من ينابيعها العذبة، ويتتلمذ على أيدي أساتذتها الكبار، مهيئاً نفسه للعمل في خدمة الرسالة، مبلّغاً أحكامها، ناشراً تعاليمها، وهو مع إقباله الكبير لتلقي العلوم الدينية وميله نحوها، إلاّ أن عينيه كانتا ترمقان من بعيد الساحة اللبنانية، ومستقبل العمل الإسلامي فيها، فيتصل من هناك بإخوانه المؤمنين مستكشفاً أوضاعهم، ومطلعاً على ما يعانونه من شؤون العمل الإسلامي وشجونه..
وقد عاد الشيخ إلى لبنان لزيارة أهله وأصحابه، ثم قفل راجعاً إلى النجف ليتابع علومه، إلاّ أنه في هذه المرة، لم يلبث سوى سنة ونصف، حتى عاد عام 1974 بعد أن أسفر النظام في العراق عن حقد دفين على المؤمنين والعلماء فطاردهم وشرّدهم وزج عدداً كبيراً منهم في السجون..
العودة إلى جبشيت
عاد إلى مسقط رأسه في جبشيت، في وقت كانت فيه طروحات اليسار، وشعاراته ومفاهيمه تغزو المنطقة بأسرها، وتتسلل لتدخل إلى قلوب الناس في محاولة لاستقطابها، عاد والإسلام بكل مفاهيمه في غربة عن أذهان الناس وعقولهم، اللهم إلا فئة قليلة مؤمنة، كانت تعي دورها، وتحمل قضايا الإسلام في قلبها وفكرها، لتقدمه كحل ناجع لإصلاح الأمة وبناء المجتمع..
عاد الشيخ وهو يدرك أن طريقه ليس مفروشاً بالزهور، كان يعلم أن طريقه صعب وطويل، محفوف بالمكاره، مزروع بالأشواك، يتطلب جهداً كبيراً، وآلاماً كثيرة، فتوجه في بداية عمله لاصلاح ما أفسدته الأوضاع السائدة آنذاك، وعمل على إظهار الإسلام بصورته النقية الناصعة، بعد أن طمرت معالمه الأفكار الدخيلة، ثم ساهم في تنمية الحس الإسلامي وتطويره من خلال المواعظ التي كان يلقيها، والدروس التي يقدمها، والسهرات التي يحييها، واستطاع بأسلوبه الجذاب، وطلاوة حديثه، أن يشدّ الناس إليه ويحببهم فيه، ولم يغب عن باله أن أخطر ما يعاني منه الناس هو جهلهم لدينهم وما يتضمن من مفاهيم وقيم سامية، فاهتم بتطوير الثقافة الإسلامية، وأنشأ المكتبة العامة، لتكون وسيلة تساهم في الإرتقاء بالإنسان المسلم إلى مستوى الوعي الرسالي..
وبعد أن أطمأنّ إلى الصحوة التي أنشأها في بلدته، أراد أن يتجاوز بعمله حدود قريته الصغيرة، ليشمل ما جاورها من قرى المنطقة، فراح يوطد العلاقة مع أبنائها، ويلتقي مع المؤمنين فيها، ليشاركهم فيما يحملون من هموم العمل وشؤونه، ولينشئ بالتعاون معهم وجوداً إسلامياً، يقدر على الوقوف بوجه التحديات التي تواجهه، والأخطار المحدقة به، مما أثار حفيظة القوى السياسية الأخرى التي كانت تتحكم بمجريات الأمور، فهيّأت نفسها لمواجهة ظاهرة جديدة لم تكن تراها من ذي قبل، وعمدت إلى تضييق الخناق على رقاب المؤمنين، واضطهاد عدد منهم، وملاحقة الآخر.
صلاة الجمعة
وإيماناً منه بتأسيس وجود إسلامي قادر وقوي، وإنشاء جيل إسلامي واع ومتجانس، فقد بادر الشيخ إلى إقامة صلاة الجمعة، هذه الصلاة التي يتعارف عليها الناس من ذي قبل، والتي كانت بالنسبة إليهم نمطاً جديداً وبارزاً.. لقد أقام هذه الصلاة وأصر عليها رغم بعض مظاهر الاستهجان التي لاقاها، لتكون محطة مهمة ترفد العمل الإسلامي وتغذيه، ولتغدو ذلك الملتقى الذي يجمع بين المؤمنين على اختلاف أعمارهم ومناطقهم، فيتحدون ويتآلفون، ويطلعون من خلالها على قضايا الأمة ومشاكلها..
وأخذت صلاة الجمعة تكبر شيئاً فشيئاً، حتى شكلت فيما بعد نواة العمل الجهادي الصلب، الذي قدّم إلى ساحة الصراع مع العدو مقاومين ومجاهدين وشهداء..
ولم يكن الشيخ ليكتفي بالعمل التبليغي وحسب، كما لم يكن يكتفي بالتثقيف والإرشاد فقط، لقد كان يرى أن الكلام مهما أوتي من قداسة، يظل كلاماً عابراً معلّقاً في الفراغ، ما لم يترجم إلى سعي مستمر، وعمل دؤوب، لذلك عاش الشيخ مع الناس.. دخل إلى عمق مأساتهم، وراح يعالج مشاكلهم، ويكابد معهم، فيعاني ما يعانون، ويألم لما يألمون..
مبرّة السيدة زينب(ع)
لقد كان أشد ما يؤلمه مشهد الفقراء البائسين، الذين لا يجدون قوت يومهم، فراح يزورهم بنفسه، ليستكشف أحوالهم، يتفقد أمورهم، يمدّ لهم يد المساعدة، علّه يخفف عنهم مرارة البؤس ولوعة الحرمان، ولعل أكثر ما كان يثير الأسى في نفسه، هي تلك الصور الدامية للأطفال اليتامى، فعمل جاهداً على إيوائهم، واستنقاذهم من براثن الجهل والفقر، ورعايتهم وتربيتهم على أسس إسلامية سليمة ومتينة، من أجل أن يصنع منهم جيل المستقبل الذي سيرفع على أكتافه مجتمعاً متعافياً دافقاً بالخير، زاخراً بألوان الرقي والتقدم والازدهار..
وقد وفق بعد جهود مضنية، وبالتعاون مع "الجمعية الخيرية الثقافية" إلى بناء مبرّة "السيدة زينب(ع)" لتكون وسيلة لهذا الهدف السامي والنبيل..
وهكذا، فقد غدا الشيخ نتيجة إخلاصه لقضايا أمته، ومواكبته لشؤون مجتمعه، ورعايته لأمر الناس، قائداً شعبياً فذّاً، أطمأن الناس إليه، ومنحوه كامل الثقة، فأحبهم وأحبوه، وعاش في وجدان كل واحد منهم..
[