* حدود إدراك الإنسان
يعتبر الإنسان كائناً ممتازاً بين الحيوانات لأنه يتمكن من الوصول إلى ترقيات أخرى. فهو يختلف عنها في الادراكات، وفي غايات الادراكات أيضاً.
فللحيوانات إدراك محدود يقف عنده. بينما يمكن القول إن إدراك الإنسان وقابليته للتربية غير متناهية تقريباً. ويشترك الإنسان مع كل ما هو موجود في هذا العالم من النباتات والحيوانات وما يعادلها، لكنه يمتاز عنها بإضافة وهي أن في الإنسان قوة عاقلة وقوة عليا لا توجد عند المخلوقات الأخرى مثلها.
لو كان الإنسان ينمو بنفس المقدار كما سائر الحيوانات، فلم تكن ثمة حاجة للأنبياء، لأي شيء نريد الأنبياء؟
فالإنسان يعيش مثل الحيوانات، ويأكل مثلها، وينام مثلها، ويموت مثلها أيضاً... إننا نحتاج للأنبياء لأننا لسنا مثل الحيوانات التي لها حدوداً حيوانية فقط وينتهي كل شيء. للإنسان مستوى فوق الحيوان، ومرتبة أعلى من الحيوان وفوق العقل حتى يصل إلى ذلك المقام الذي لا نستطيع أن نعبر عنه، والمقام الأخير مثلاً يعبر عنه بـ "الفناء" أو يعبر عنه بـ "الألوهية"، وتعابير مختلفة أخرى، فتربية الإنسان بكل أبعادها سواء التربية الجسمية أو الروحية أو العقلية أو ما فوقها، لا يمكن أن تكون بيد البشر، لأن البشر لا يلم بحاجات الإنسان وكيفية تربيته بالنسبة إلى ما وراء الطبيعة، ولو جمعنا كل طاقات البشر ووضعناها فوق بعضها البعض، لتمكنت من فهم هذه الطبيعة وخاصية الطبيعة فقط، ولكن ورغم ذلك فان خصائص الطبيعة لم يكتشفها البشر بأجمعها. نعم إنه يعرف بها إلى حد ما، وقد تطور في الأيام الأخيرة كثيراً، لكن أموراً كثيرة لم تكتشف، وسوف تكتشف فيما بعد، ولكن مهما يكن فانه لا يخرج عن إطار الطبيعة لهذا العالم، ويختص بهذه الورقة. إن الشيء الذي يمكن للإنسان أن يدركه ويدخل ضمن حدود إدراكه الطبيعي هو عالم الطبيعة هذا. افرضوا ان الإنسان تمكن في يوم ما من فهم كافة خصوصيات عالم الطبيعة، وكل ما يرتبط بكمال الطبيعة والتطور في الطبيعة، إلا إنه ورغم ذلك يبقى محدوداً بإطار الطبيعة لا أكثر. إنه لا يعلم بالوجه الآخر لهذه الورقة، ولا يدري ما الخبر، وكيف تكون العلاقات بين الأشياء.
ولو حاول الإنسان حتى النهاية وبذل جهده، فإنه يتمكن من معرفة تلك العلاقات التي بين الأشياء في الطبيعة، والعلة والمعلول، والسبب والمسبب، وهو اكتشافه لهذه الطبيعة بتمام خصوصياتها، وكل العلاقات التي بين مختلف الأجزاء في الطبيعة؛ مثلاً اكتشف الزلزلة وعلاقتها بالأرض، ومتى تحدث ونوع الهزة أفقية أم عمودية. واكتشف العلاقات بين طبيعة الإنسان وذلك الشيء مثلاً... كل ذلك لو أدركه وفهمه، ولم يبق أي مجهول أمامه، لكنه سيبقى ضمن إطار الطبيعة، ولا يمكنه أن يتحرك خارج حدودها وفوقها، ويدرك وراءها.
* تربية البعد المعنوي للإنسان من خلال الوحي
لو كان الإنسان بهذا المستوى من الطبيعة، ولم يكن شيئاً أكثر من هذا، فلم تكن هناك أية حاجة لإرسال شيءٍ للإنسان من عالم الغيب لكي يرى الإنسان، ويرى الجانب الآخر منه. فما دام الجانب الآخر غير موجود، فالحاجة معدومة أيضاً. ولكن الإنسان مجرداً عن عالم الطبيعة هو حقيقة. ونفس هذه الخصوصيات الموجودة في الإنسان تدل على أن هناك شيئاً وراء هذه الطبيعة.
وحسب البراهين الثابتة في الفلسفة، فإن للإنسان عالم ما وراء الطبيعة، ويملك الإنسان عقلاً مجرداً بالإمكان، ويصير مجرداً تاماً فيما بعد. ويجب على من يقوم بتربية الجانب الآخر للإنسان ـ أي الجانب المعنوي ـ أن يملك علماً حقيقياً بذلك الجانب، وعلماً بالعلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة وما وراءها، أي يمكنه أن يدرك تلك العلاقات. وهذا ليس ببشر، ولا يتمكن الإنسان من ذلك. فالإنسان لا يمكنه أن يدرك سوى عالم الطبيعة. وكلما ينظر بالمكبر والمجهر، فإن عالم ما وراء الطبيعة لا يشاهد بها، بل إنه بحاجة إلى معاني أخرى في العمل، وبما أن هذه العلاقات خافية على البشر، ولا يعلم بها إلا الباري جل وعلا، الذي خلق كل شيء، لذا فإن الوحي الإلهي ينزل على أشخاص وصلوا مرحلة الكمال ونالوا الكمالات المعنوية وفهموا، وتتحقق علاقة بينهم وبين عالم الوحي ويوحى إليهم، ويُبعثوا لتربية الجانب الآخر من الإنسان، فيأتون إلى الناس ليربّوهم.
* هل الدين أفيون أم محرك؟
إن أعداءنا يقولون بأن "الدين أفيون"، ومع الأسف فقد أثر هذا الكلام في إيران وبين شبابنا، ونشاهد آثاره حتى بين بعض مثقفينا. إن "الدين أفيون، أفيون الشعوب" يعني أن هؤلاء أصحاب النفوذ جاءوا بالدين لكي تنام الشعوب فينهبوها. وعن الإسلام قالوا أيضاً بأن "الإسلام كان مفيداً لألف وأربعمائة سنة مضت، ولا يمكن تطبيق جميع أحكام الإسلام الآن" هؤلاء لا يعرفون ما هو الإسلام، انهم يقولون "لقد اختلقوا أنبياء ليعدّوا الدين لأجل المحافظة على الأقوياء" في حين أن المتصفح لصفحات التاريخ وخاصة تاريخ الإسلام ـ الذي هو قريب من عصرنا الحاضر ـ يشاهد مَن وقف بوجه مَن، وإن كل من ينظر إلى تاريخ الأنبياء وما هي الطبقة التي ينتمون إليها ومَن يعارضون، يعلم بأن الأنبياء كانوا من هذه الطبقة المستضعفة، من هذه الطبقة الثالثة من عامة الناس، ودفعوا الناس لمحاربة المستكبرين. وأحدهم موسى (ع)، إذ كان راعياً يحمل عصاه، وخدم شعيب (ع) لمدة طويلة، وعمل راعياً عنده، وكان من عامة الناس، ونهض من بينهم، وجهزهم ضد فرعون.
إن فرعون لم يرَ موسى ليحفظ عرشه، وإن موسى جمع الناس، وجهها للاطاحة بعرش فرعون، لا أن الدين أفيون؟
إنهم يعتقدون بأن فرعون جاء بموسى ليخدر الناس من أجل أن يحكمهم، لكن الشيء الذي حصل هو عكس ذلك، فقد جمع موسى الناس ـ أي هذه الطبقة الثالثة ـ ونهض معهم وأطاح بعرش فرعون.
والتاريخ الإسلامي قريب من عصرنا، فهل إن قريش وأسيادها هم الذين جاؤا بالرسول (ص) لأجل تخدير الناس حتى يواصلوا تجارتهم وأخذ الربا والنهب؟!
أم أن الرسول الأكرم(ص) وقف بوجه قريش؟ إنه كان من قريش أيضاً لكنه إنسان ينتمي إلى هذه الطبقات الدانية. إنه كان من الأشراف بمعنى أن له عشيرة، ولكنه لا يملك شيئاً. لم يستطع العيش في مكة، وفَرَّ من أيدي هؤلاء الطغاة وأصحاب القدرة والمال إلى أحد الجبال لبعض الوقت، وكان في غار حتى أنهى الأعمال السرية، ثم ذهب إلى المدينة. وفي المدينة من كان يرافقه؟ هل كانوا هؤلاء الأقوياء؟ هل كانوا هؤلاء الطغاة؟ هل كانوا هؤلاء الآكلين للربا؟! هل كانوا التجار؟! هل كانوا اليهود الذين هم من الأغنياء؟!
أم أن الرسول دخل على رجل من الطبقة الثالثة وحوله رجال فقراء، وهو كان يملك بيتاً وغرفة (ليست مثل هذه الغرفة) بل إنها غرفة قائمة على أعمدة من جذوع النخيل، حيث بنى منها غرفته ومسجده، وكان بعض أصحابه من أهل الصفة الذين لا بيت لهم، وكانوا ينامون على تلك الصفة، وهذه هي حياتهم. فجمع هؤلاء حوله، وقضى على كفار قريش.
إن الرسول جمع هؤلاء المستضعفين الذين كانوا من الدرجة الثالثة ولا يملكون حتى البيت... لمحاربة قريش. فالإسلام وسائر الأديان إنما هي محركة، وأيقظت الناس، وتعليمات الأنبياء أيقظت الجماهير، وأثارت الناس ضد أصحاب النفوذ وضد المشركين.
* الدين والتمدن
من المؤامرات المهمة الملحوظة بوضوح في القرن الأخير، وخصوصاً في العقود الأخيرة، وبالأخص بعد انتصار الثورة هي مؤامرة الدعاية الواسعة وبأبعاد شتى الهادفة إلى ادخال اليأس من الإسلام إلى قلوب الشعوب، خاصة شعب إيران المضحي. تروج أحياناً بصورة ساذجة وبلهجة صريحة، بأن أحكام الإسلام وضعت قبل ألف وأربعمائة عام فلا يمكنها اليوم إدارة أمور الدول، أو أن الإسلام دين رجعي يرفض أي مظهر من مظاهر التمدن. ولا يمكن للدول المعاصرة أن تنسلخ من هذا التمدن العالمي ومظاهره، وأمثال هذه الدعايات البلهاء. فيما تعمد أحياناً أخرى إلى أساليب دعائية خبيثة وشيطانية، حيث تطرح تلك الدعايات تحت غطاء الحرص على قدسية الإسلام، وإن الإسلام ـ كسائر الأديان الإلهية ـ إنما يُعنى بالمعنويات وتهذيب النفوس والتحذير من المقامات الدنيوية، ويدعو إلى ترك الدنيا والانهماك في العبادات والأذكار والأدعية، التي تقرب الإنسان من الله تعالى وتبعده عن الدنيا، وان الحكومة والسياسة وإدارة أمور البلاد على خلاف ذلك الهدف العظيم والمعنوي، فهذه جميعاً من أجل إعمار الدنيا، وهذا ما لا ينسجم مع سيرة الأنبياء العظام، ومع الأسف فإن هذا النوع الثاني، من الدعاية أثر في بعض رجال الدين والمتدينين غير العارفين بالإسلام، حتى كانوا يعتبرون التدخل في شؤون الحكم والسياسة معصية وفسوقاً، ولعل البعض يعرفون، وهذه فاجعة عظمى ابتلي الإسلام بها.
بالنسبة للصنف الأول، ينبغي القول: إنهم إما جهلة بالحكم والقانون والسياسة، أو يتظاهرون بعدم العلم لأغراض خاصة، فإجراء القوانين على أسس القسط والعدل ومنع الظلم ومواجهة الحكم الجائر وبسط العدالة، على كلا الصعيدين الفردي والاجتماعي، وقمع الفساد والفحشاء وأشكال الانحرافات، وتحديد الحريات بموازين العقل والعدل وقضايا الاستقلال والاكتفاء الذاتي ومكافحة الاستعمار والاستغلال والاستعباد، وقضايا الحدود والتعزيزات على أساس العدل منعاً لفساد العالم وتدمير المجتمع، وقضايا السياسة وتدبير شؤون المجتمع وفق معايير العقل والعدل والإنصاف، والمئات من أمثال هذه القضايا هي ليست من الأمور التي يبليها الدهر على مدى التاريخ الإنساني والحياة الاجتماعية، وادعاء ذلك مثل الادعاء بأن القواعد العقلية والرياضية، يجب أن تلغى في القرن الأخير، وتستبدل بقواعد أخرى، وما هو بأكثر من ادعاء بليد.